السيد منير الخباز
العلاقة الزوجية والثراء العاطفي
الليلة الثامنة محرم 1446 هـ
المركز الإسلامي (ميشيغان)
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21]
صدق الله العلي العظيم
حديثنا هذه الليلة حول العلاقة الزوجية والثراء العاطفي، وذلك من خلال محاور ثلاثة:
1. العلاقة الزوجية في الرؤية القرآنية.
2. سر العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة.
3. ركائز العلاقة الزوجية الناجحة.
المحور الأول: العلاقة الزوجية في الرؤية القرآنية
في السنوات الأخيرة، صار هناك بحث حول الزواج: هل هو ضروري للإنسان أو ليس ضرورياً؟ الحركة النسوية عارضت مبدأ الزواج، وقالت بأن الزواج سجن للمرأة، يقضي على طموحاتها ويقتل أحلامها، ويجعلها بَذْلَةً رخيصة للرجل، فعلى المرأة أن تتحرر من الزواج.
وذهب أيضاً بعض الباحثين إلى أن الزواج ضروري، ولكنه ضروري لأجل علاقة الاستمتاع الجنسي فقط، أي أن الإنسان محتاج إلى فرصة مؤقتة للاستمتاع الجنسي، وليس محتاجاً إلى تأسيس علاقة أسرية أو علاقة زوجية مبنية على تبادل الحقوق والواجبات. لذلك ترى كثيرًا من شبابنا وشاباتنا الآن لديهم عزوف عن الزواج، يقولون: لماذا أقحم نفسي في المشاكل والخلافات؟ لماذا أقحم نفسي في عالم لا أدري ما هي نهايته؟ أكتفي بأن أعيش وحيداً وأدير أموري وحيداً.
بينما قسم من علماء الاجتماع يرون أن الزواج كعلاقة وظيفية، كمؤسسة قائمة على طرفين بينهما حقوق وواجبات.
عندما نأتي لعلماء النفس، ما زال علماء النفس يؤكدون على أن الزواج عنصر ضروري لحياة الإنسان، وليس مجرد علاقة جنسية، وليس مجرد ارتباط عاطفي مؤقت، وليس بمؤسسة مالية قائمة على حقوق وواجبات. الزواج أكبر من أن يكون مؤسسة قائمة على تبادل الحقوق والواجبات، هو ليس وظائف موزعة على الطرفين، بل هو علاقة إنسانية أعمق من ذلك. الزواج علاقة إنسانية مثلى توفر لكل من الطرفين رصيداً من الاستقرار النفسي، والهدوء والسكينة وهذا ما يؤكده القرآن الكريم.
القرآن الكريم يرى أن الزواج أسمى العلاقات الإنسانية وأقواها، وذلك من خلال آيتين من القرآن الكريم:
الآية الأولى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ [البقرة: 187]
حاجة الإنسان إلى اللباس حاجة ضرورية في الحياة؛ لأن اللباس يقيه من الحر والبرد، والزواج يقي كل من الطرفين من الانحراف والعلاقات الجنسية غير المشروعة. اللباس زينة للإنسان، كذلك الزواج، المرأة الصالحة زينة للرجل، والرجل الصالح زينة للمرأة، كل منهما زينة للآخر، كل منهما مظهر جميل للآخر. إذا وجدت رجلاً متوازناً فاعرف أن وراءه امرأة متوازنة، وإذا وجدت امرأة متوازنة فاعرف أن وراءها رجلاً متوازناً، كل منهما يعطي التوازن والهدوء والاستقرار للآخر.
الآية الثانية: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21]
الزواج آية من آيات الله، عندما نقرأ الآيات التي قبل هذه الآية وبعدها: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ «19» وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ «20» وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾ [الروم: 19 - 20]
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم: 22]
كل هذه الآيات في سياق واحد وهو التصميم الهادف لخلق علاقة التكامل. الوجود كله تصميم هادف، هذا الوجود وراءه مصمم، هذا المصمم صمم الوجود لهدف وذلك الهدف هو إيجاد علاقة التكامل بين أجزاء الوجود، كل جزء من الوجود يكمل الجزء الآخر، الوجود خُلق وصُمم لهدف التكامل بين أجزائه.
مثلاً عندما يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ علاقة السماء والأرض علاقة تكامل، علاقة السماء والأرض قائمة على قوتين: قوة سالبة وهي قوة الجاذبية التي ببركاتها انتظمت النجوم والمجموعات الشمسية، وقوة موجبة وهي ثلاث قوى: الطاقة الكهرومغناطيسية، القوة النووية الشديدة، القوة النووية الضعيفة. كل قوة من هذه القوى تسهم في الحياة على الأرض.
مثلاً الطاقة الكهرومغناطيسية هي التي تدير حياتنا على هذا الكوكب، والقوة النووية الشديدة هي التي تحدث في النجوم العملاقة وفي المفاعلات النووية لتوليد الطاقة، والقوة النووية الضعيفة هي التي تحرك القشرة الأرضية وتسهم في الزلازل والبراكين والفيضانات والجبال، لا تُعتبر الزلازل والبراكين شراً بل هي خير؛ لأن استقرار الأرض يتوقف على حدوثها. زلزال يحدث في منطقة ما يُحدث استقراراً في القشرة الأرضية في منطقة أخرى. القوة النووية الضعيفة التي تسهم في تحريك القشرة الأرضية وتحدث زلازل وبراكين وفيضانات، وتكوّن الجبال والتلال على الأرض هي أيضاً تسهم في استقرار الأرض.
إذن العلاقة بين السماء والأرض القائمة على هاتين القوتين هي علاقة تكامل، الأرض تحتاج السماء، والسماء تحتضن الأرض، بينهما علاقة التكامل.
أيضاً عندما نأتي إلى قوله تعالى: ﴿وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ [الروم: 22]
الألسن والألوان تعبير عن الطاقات، اختلاف الألسن والألوان يعني اختلاف الطاقات البشرية، من آياته اختلاف طاقاتكم، أنتم طاقات مختلفة، خلقكم طاقات متفاوتة من أجل أن تتكاملوا ويستفيد بعضكم من البعض الآخر.
قال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13] التعارف يعني تلاقح الطاقات والخبرات، الكل يتعارف على الآخر أي يستقي من خبراته وطاقته.
لذلك في المحاضرة في الليلة السابقة قلنا هناك حضارتان: حضارة إسلامية وحضارة مادية رأسمالية. هذا لا يعني أن بين الحضارتين صراعًا، بين الحضارتين تكامل وليس صراعًا. نحن لا نقول بنظرية هنتنغتون الذي يقول بأن العولمة تؤدي إلى الصراع، ولا بنظرية فوكوياما الذي يقول بأن العولمة تؤدي إلى الوحدة، نقول هناك حضارتان متأصلتان، بينهما علاقة التكامل والتلاقح في الخبرات والتجارب والآراء.
من هذا المنطلق وهو أن الوجود صُمم لهدف وهو هدف التكامل، أيضاً العلاقة الزوجية صُممت من قبل الله. الله لم يخلق ذكوراً فقط، ولم يخلق إناثاً فقط، خلق ذكوراً وإناثاً من أجل توليد علاقة زوجية هادفة، الهدف منها تكامل الذكر بالأنثى، وتكامل الأنثى بالذكر. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء: 1] هذه الآية تؤكد على علاقة التكامل.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21] الخطاب موجه للذكر والأنثى، العلاقة الزوجية ضرورية للإنسان لأنه يحتاج إلى السكون والراحة، يحتاج إلى الرحمة والمودة، والأجواء الزوجية هي التي توفر له الرحمة والمودة والسكون والاطمئنان.
إذن العلاقة الزوجية بالرؤية القرآنية هي علاقة تكامل.
المحور الثاني: سر العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة
ما هو السر وما هو الجذر في العلاقة العاطفية بين الزوجين؟
هنا ثلاث نظريات في علم النفس الاجتماعي لسر العلاقة العاطفية بين الزوجين:
1. نظرية التبادل الاجتماعي
جورج هومانز يقول بنظرية التبادل الاجتماعي وتعني أن الزوجين شريكان، كما أن الشريكين في المؤسسة بينهما علاقة تبادلية، وهو التبادل في المصالح المادية، كل منهما يقدم للآخر بمقدار ما يأخذ. أيضاً العلاقة الزوجية هي شركة واستثمار لها طرفان: رجل وامرأة بينهما علاقة تبادلية، لكن ليس في عالم المادة بل في عالم المحبة والاحترام، كل منهما يطلب من الآخر رصيداً من البهجة والراحة، بمقدار ما يقدم هو للآخر.
2. النظرية المعرفية
آرون بيك في علم النفس المعرفي يطرح هذه النظرية. أخوان يعيشان في بيت واحد، ولكن ليس بالضرورة أن يكونا منسجمين، قد يكونان مختلفين وهما من نفس الأب والأم. النظرية المعرفية تؤثر في العلاقة بينهما بمعنى أن تفسير المواقف، وقراءة الأحداث، وطريقة فهم كل منهما للآخر مؤثرة على علاقتهما. إذا كان الأخ يقرأ مواقف الأخ الآخر بحسن الظن، ويفسر مواقفه تفسيراً جميلاً، يقرأ أفكاره قراءة جميلة، فإن هذه القراءة تؤثر على علاقته معه.
أنت الآن جالس في المحاضرة وتستمع إليها، كيف تقرأ هذا المحاضر؟ يرجع ذلك إلى قراءتك له. إذا كنت تقرأ المحاضر قراءة جيدة فإنك تستمع له جيداً، أما إذا كنت تقرأ المحاضر قراءة سيئة فتبدأ بالبحث عن السقطات والأخطاء والانتقادات. قراءة الآخر عنصر مؤثر على علاقتك به، وتسمى هذه النظرية بالنظرية المعرفية.
أيضاً هذه النظرية بين الزوجين، إذا كان كل من الزوجين يقرأ الآخر قراءة سليمة، ويفهم الآخر فهماً صحيحاً، ستكون علاقتهما علاقة انسجامية، وليست علاقة انفصالية. العلاقة الزوجية تحتاج إلى فهم كل من الطرفين، حتى ولو بعد أربعين أو خمسين سنة من الزواج، يحتاج الزوجان لمهارات التواصل العاطفي مهما كبر سنهما، ومهما تقدما في العلاقة الزوجية.
ومن مهارات التواصل: حسن الإنصات، تقبل موقف الآخر في القضايا الحساسة، تبادل الأفكار بينهما؛ كلٌّ يفصح بأفكاره وبشكل واضح وصريح للآخر، فهم كل منهما لطبيعة الآخر. يظن البعض أنه ليس هناك فرق بين الرجل والمرأة، فقط فرق شكلي وبالإمكان تغيير هذا الفرق الشكلي الذي يقبل عليه البعض، ولكن الدكتور عمر شريف في كتابه «المخ ذكر أم أنثى» يؤكد أن هناك فرقًا في آليات عمل الدماغ، وليس الفرق فقط في الجسد والشكل، الفرق بين الذكر والأنثى هو فرق في آليات عمل الدماغ.
الدماغ له نصفان: نصف أيمن ونصف أيسر. النصف الأيمن هو المسؤول عن التفكير الانفعالي لدى الإنسان، بينما النصف الأيسر هو المسؤول عن التفكير الرياضي والتحليل والاستنتاج. وهذان النصفان يختلف عملهما عند الذكر والأنثى.
مثالان لعمل النصفين في الذكر والأنثى:
المثال الأول:
قرارات الرجل قد تنفصل عن عاطفته، فتكون قرارات جافة ليس فيها أي عاطفة، ينفصل قرار الجنب الأيسر عن الجنب الأيمن، بينما قرارات المرأة دائماً مشحونة بالعاطفة، حتى لو كانت قرارات صحيحة، سواء كانت قرارات تراحمية أو قرارات انتقامية، قرارات المرأة مشحونة بجو من العاطفة، بجو من الحرارة.
المثال الثاني:
عندما تعرض مشكلة نفسية على ذكر وأنثى وكلاهما طبيب نفسي ولديهما خبرة في حل المشاكل النفسية ولكن هذا ذكر وهذه أنثى، فإن الرجل إذا عرضت عليه المشكلة يذهب إلى الأعمدة الرئيسة في المشكلة ويترك التفاصيل، ولذلك يقال تفكير الرجل تفكير استراتيجي لأنه يذهب إلى الأعمدة الرئيسة في المشكلة ولا يدخل في التفاصيل، بينما المرأة تركز على كل التفاصيل، واحدة واحدة، ولا تتنازل عنها حرف منها، تقف مع كل مشكلة ومع كل تفصيل. طبيعة المرأة هي هكذا وهذا ليس عيباً في المرأة ولا مدحاً في الرجل، طبيعة آلية عمل الدماغ عند الرجل والمرأة هكذا، الرجل يتجه إلى النقاط الأساسية ويترك التفاصيل، بينما المرأة تقف مع التفاصيل حرفاً حرفاً.
إذن فهمُ كل من الطرفين لطبيعة فكر الآخر، لطبيعة فهم الآخر، لطبيعة مواقف الآخر يسهم في العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة.
إذن النظرية الثانية لا تقول إن العلاقة تبادلية فقط بل أعمق من ذلك، أن يفهم كل منهما الآخر.
3. التعاطف
سر العلاقة بين الرجل والمرأة هو التعاطف، والتعاطف له درجتان: التفاعل والتقمص العاطفي.
التفاعل يعني أن تهتم بالآخر، والاهتمام بالآخر عاطفياً يعزز الصحة النفسية لدى الطرف الآخر، إذا كان لديك ولد أو بنت لديه اختبار إذا تعاطفت معه أو اهتممت بها أيام الامتحان هذا التعاطف يزرع عنده الثقة والاطمئنان، ويعزز الصحة النفسية لديه.
إذن الدرجة الأولى من التعاطف هي الاهتمام، وهو أمر ضروري للعلاقة العاطفية بين الطرفين. ورد عن الرسول محمد: "من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم". على الأقل أن تكون لديك هذه الدرجة الأولى من التعاطف وهو الاهتمام بشؤون المسلمين وأمورهم.
الدرجة الثانية هي التقمص العاطفي. مقال في علم الأعصاب المعرفي ترجمة الدكتورة سمر موسى، تقول فيه: هناك فرق بين الشفقة والمواساة، الفرق أن الشفقة انفعال أما التقمص العاطفي فهو فعل وعمل. تارة أسمع مشكلة من صديقي فأتأسف لحاله وأقول له أنا أفهمك، أنا أتألم لحالك، هذا يسمى شفقة، الشفقة هي الشعور بالأسى، لأجل ذلك يسمى هذا النوع شفقة لأنه انفعال من طرف لطرف آخر.
ولكن هناك ما هو أعظم من الشفقة ألا وهو المواساة، المواساة فعل وليست مجرد انفعال، التقمص العاطفي المعبر عنه بالمواساة هو أن تضع نفسك مكان الآخر، يقول الإمام علي: "واجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فاحبب لغيرك ما تحبه لنفسك واكره له ما تكره لها".
هذه هي المواساة وهذا هو التقمص العاطفي، التقمص العاطفي ليس مجرد انفعال بل فعلٌ، وهو أن تضع نفسك مكانه، لو كنت مكانه وعشت مشاعره وأحزانه فماذا ستفعل؟ كيف تتصرف؟ أن تجعل نفسك مكان الآخر هو التقمص العاطفي، هو الذي يقول عنه أمير المؤمنين «فاحبب لغيرك ما تحبه لنفسك»، هو الذي يعبر عنه الإمام الحسين بالإنصاف والمواساة «السلام عليك أيها الأخ المواسي لأخيه» حالة التقمص العاطفي أن جعل نفسه مكان الإمام الحسين وشعر بألم الحسين.
من هنا يقول بعض علماء الاجتماع، هل علاقتك مع الزوجة مجرد علاقة اهتمام، تهتم بها وتشفق عليها أم علاقتك مع الزوجة أعمق من ذلك، أي علاقة تقمص عاطفي تعيش آلامها وأحزانها، تعيش معاناتها؟ التقمص العاطفي بين الزوجين أعظم درجة من العلاقة العاطفية، ولذلك يقول بعض المفسرين للآية ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [الروم: 21] «من أنفسكم» يريد أن يشير إلى عمق العلاقة بين الزوجين، أي أن العلاقة بين الزوجين كأنهما نفس واحدة، علاقة تصل إلى التقمص العاطفي والمواساة، ولا تقتصر على مجرد الشفقة والاهتمام.
المحور الثالث: ركائز العلاقة الزوجية الناجحة
هنا عدة ركائز:
1. المعرفة التفصيلية المسبقة
العلاقة الزوجية لا تقوم على نظرة جميلة بين الطرفين، ولا على مجرد تعارف في الجامعة أو في العمل، لابد أن تقوم على معرفة تفصيلية للطرفين قبل الزواج، يعرفها تفصيلاً وتعرفه تفصيلاً، وهذه المعرفة التفصيلية هي التي قال عنها النبي: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه ذلك تكن فتنة في الأرض وفساد كبير".
وقال: "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس".
وقال: إياكم وخضراء الدمن. قيل: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء.
ينبغي أن تعرفها هل هي متدينة، هل عندها وازع ديني يمنعها من تجاوز الخطوط. ينبغي أن تعرفيه هل هو متدين، هل عنده وازع ديني يمنعه من تجاوز الخطوط؟ من أكبر الأسباب التي تُفشل العلاقة الزوجية أن أحد الزوجين لديه علاقات وراء الزواج لأنه ليس لديه وازع ديني. عندما يكون لأحد الزوجين علاقات غير مشروعة خارج العلاقة الزوجية يفشل الزواج ويوجب نفوراً بين الزوجين، لذلك لابد من التأكد من الوازع الديني، أن يكون إنسانًا صاحب أخلاق وتسامح حتى يتعامل مع الزوجة بالتسامح والبسمة «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه».
«تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس» ادرس عائلتها ومنبتها، هل هي عائلة شريفة معروفة بالصلاح والتوازن أم لا، ادرس منبتها لا مجرد أن البنت أعجبتك بأخلاقها، أو أعجبتك بجمالها، بل ادرس منبتها وأسرتها، الجينات الوراثية تؤثر، ليس الزواج علاقة جنسية ولا علاقة عاطفية فقط، الزواج بناء لأجيال متدينة متخلقة، وبما أن الزواج بناء لأجيال متدينة ومتخلقة إذن لابد أن يكون الطرفان من أسرة متدينة متخلقة.
2. القناعة
أن يقنع كل منهما بالآخر، لا أن تنظر المرأة إلى الرجل بنظرة دونية أو ينظر الرجل إلى المرأة بنظرة دونية، لأنه يُفشل العلاقة الزوجية. سر العلاقة الزوجية أن يقنع كل منهما بالآخر، أي أن يرى كل منهما الآخر كفؤًا له ونداً له، من حيث النسب، من حيث الطيب، من حيث الديانة، أن يقنع كل منهما بالآخر ليعيش مع الآخر الحياة الكريمة.
لأجل ذلك دخل النبي محمد على علي وفاطمة صلوات الله عليهما بعد زواجهما، قال: يا علي كيف رأيت فاطمة؟ قال: نعم العون على طاعة الله. وقال لها: كيف رأيت علياً؟ قالت: خير زوج يا رسول الله.
أن يقنع كل من الطرفين بالآخر ضروري لبناء علاقة زوجية مستمرة ومستقرة، وأن لا ينبذ أحدهما الآخر ولا يعيبه، بل يقنع به ويُبرز كل منهما أن الآخر نعمة أنعم الله بها عليه.
3. التكيف مع المحيط
كثير من العلاقات الزوجية تفشل في العامين الأولين لأن الزوجين إنسانان مختلفان في المزاج، مختلفان في السمات الوراثية، مختلفان في البيئة، مختلفان في طريقة التفكير، مع قلة الخبرة. طريقة التفكير والسمات والمزاج مختلفة وهما قليلا الخبرة فمن الطبيعي أن تحدث اختلافات، أن تحدث اشتباكات، وأن تحدث عراكات. الزواج الذي يخلو من هذه الخلافات ممل، تكون فيه الحياة مملة بائسة لأنها حياة روتينية لا تتغير ولا تتجدد، بينما الزواج الذي فيه بعض الاختلافات التي يعقبها التفاهم والرضا تعطي الحياة الزوجية روحاً جديدة، وتدفعها لنمو جديد.
إذن وجود اختلافات بين الزوجين في العامين الأولين أمر طبيعي جداً، فلا يتسرع أحد الزوجين بالفراق من الآخر بسبب الخلافات، الأهم هو أن يتغلب الزوجان على الاختلافات، كيف يتجاوزان التحديات الصعبة، كيف يتجاوزان الأحداث والمواقف المتشنجة، ويكون ذلك بثلاثة أمور:
- نبذ التوقعات غير العقلانية: يظن البعض أن الحياة الزوجية حياة الملائكة، كأن يتوقع الزوج من الزوجة حباً مثالياً، تعشقه وتعشق جسمه وصوته وتكون خادمة له. توقّع الزوج أن يكون من الزوجة مثل هذا الحب هو توقع غير عقلاني.
كما أن بعض الزوجات تتوقع أن الزوج وقف عليها، كأنما الله أوقفه على هذه المرأة ولا شغل آخر له. هناك نظرية بحسب التجربة هي صحيحة وإن لم يؤكدها علماء الاجتماع أن المرأة ترى الزوج كل شيء والرجل يرى المرأة شيئاً. المرأة لأنها تمتلك عاطفة جياشة، تمتلك مشاعر جياشة ترى أن زوجها كل شيء في حياتها لذلك تريد الزوج وقفًا عليها لا يفارقها، بينما الزوج صحيح أنه يرى الزوجة شيئاً ولكن يراها شيئاً مهماً في حياته، الزوجة والأسرة أحد الضرورات المهمة لكن لديه أيضاً ضرورات أخرى، بينما المرأة لعاطفتها الجياشة ترى الزوج كل حياتها، من هنا قد يحصل الخلاف إذا وجدت الزوج على غير توقعها، أو وجد الزوج الزوجة على غير توقعه.
- فهم مشاعر الآخر: يقول بعض علماء النفس إن مشاعر المرأة كموج البحر، يوم هادئ ويوم ثائر، طبيعة مشاعر المرأة هكذا، لأن المرأة تمر بظروف لا يمر بها الرجل. المرأة تمر بالدورة الشهرية، تمر بآلام الحمل، بالرضاعة، كل هذه الظروف تؤثر على هرموناتها وعواطفها، تجعلها انفعالية وحماسية، الظروف التي تمر بها المرأة خصوصاً أيام الدورة الشهرية حيث تتغير هرموناتها وانفعالاتها تجعلها تعيش كموج البحر بين هدوء وغليان، فليفهم الرجل زوجته من هذه الناحية.
- الحلم وضبط الأعصاب: الحياة الزوجية تحتاج إلى ضبط أعصاب وصبر وحلم، ليس بمجرد أن المرأة رفعت صوتها أو انفعلت يغضب الرجل. الحياة الزوجية تحتاج إلى حلم وضبط الأعصاب والانفعالات، يقول الإمام علي: المرأة ريحانة وليست قهرمانة.
ويقول الإمام أمير المؤمنين علي لولده الحسن: فدارها على كل حال كي يصفو لك العيش معها.
4. تبادل الحب والاحترام:
ليست العلاقة الزوجية علاقة البيضة والدجاجة، لا تقوم العلاقة الزوجية على إما أن تعطيني أولاً أو لا أعطيك، العلاقة الزوجية علاقة تبادلية، كل منهما يبادر للتعامل الجميل مع الآخر، كل منهما لا ينتظر من الآخر أن يبادر حتى يبادر هو لتبادل الاحترام والمحبة مع الآخر.
هذه هي العلاقة الزوجية علاقة تبادلية، تبادل الاحترام والمحبة بينهما، لا احترام بدون محبة ولا محبة بدون احترام، الاحترام والمحبة توأم بين الزوجين.
أحياناً كثرة النقد تُفشل الحياة الزوجية، كثرة التخطئة والملاحظات توجب احتقار الآخر، وإذا شعر الآخر بالاحتقار فإنه ينتقم لنفسه ويتعصب لذاته وتبدأ التشنجات الزوجية التي قد تؤدي إلى الجفاف في العلاقة أو تؤدي إلى الفراق. إذن لابد من حفظ اللسان عن كثرة الانتقادات والملاحظات، والتركيز على الإيجابيات بدل التركيز على السلبيات.
جاء رجل إلى رسول الله محمد قال: يا رسول الله، إن لي زوجة إذا دخلت استقبلتني وإذا خرجت شيعتني، وإذا رأتني مهموماً قالت: ما يهمك؟ إن كنت تهتم لرزقك فقد كفله غيرك، وإن كنت تهتم لآخرتك فزادك الله هماً. فقال الرسول: بشرها بالجنة فإنها عامل من عمال الله.
وفي رواية عن الإمام الكاظم أنه خضب شيبته فقال له أحدهم: سيدي أراك قد اختضبت؟ قال الإمام: نعم، للتهيئة لها. ثم التفت الإمام الكاظم إلى الرجل وقال له: أتحب أن تراها كما تراك؟ قال: لا. فقال له: فعليك بحسن التهيئة لها.
بعض الرجال يأتي من الخارج ويريد من الزوجة أن تستقبله وتحترمه، هل ترغب أن ترى زوجتك كما هي تراك؟ أنت دائماً تحب أن ترى زوجتك أنيقة نظيفة ذات رائحة طيبة كي تعيش معها جواً جميلاً، أنت أيضاً يجب أن تكون كذلك: أنيقاً نظيفاً.
بعض الأزواج علاقتهم بالزوجة علاقة جافة، لا كلمة جميلة، ولا تجديد في المعاملة. اكسر الروتين بكلمات جميلة، بهدية لطيفة، بسفرة، اكسر الروتين حتى تتجدد العلاقة الزوجية. ورد عن الرسول محمد: "قول الرجل لامرأته أحبك لا يذهب من قلبها أبداً".
قل لها كلمات جميلة. لذلك أسلوب المعاملة مع الرجل يختلف عن المعاملة مع المرأة، إظهار الحب للمرأة لا يكون بالهدايا والذهب بل يكون بالثناء على جمالها، الثناء على جهودها، الثناء على مشاريعها، أن تشعرها بثقتك بها، هذا هو الحب للمرأة.
وبالعكس المرأة التي تريد أن تظهر حبها للرجل لابد أن تبرز له ثقتها برجولته وشخصيته، ثقتها بمشاريعه، هذا النوع من الأسلوب هو الذي يقوي العلاقة بين الرجل والمرأة.
5. التعاون الإداري والتعاضد الروحي:
التعاون الإداري يعني أن يتعاونا معاً على إدارة أمور الأسرة. ضمن علي لفاطمة ما بعد الباب، وضمنَت فاطمة لعلي ما دون الباب، علي ضمن لفاطمة أن يستقي بالماء ويحتطب ويكنس المنزل أحياناً، وضمنت فاطمة لعلي الغسل وإدارة الرحى للطحن، يتعاونان على إدارة أمور الأسرة، فحاول أن تتعاون مع المرأة في شؤون المنزل.
التعاضد الروحي أن كلًّا منهما يعين الآخر على طاعة الله. زوجتك حركها نحو النافلة، أرشدها لأن تصلي نافلة، أرشدها لأن تقرأ القرآن، أرشدها لأن تقرأ الدعاء، أرشدها لأن تذهب إلى المجالس الحسينية، والزوجة أيضاً بالعكس، إذا رأت الزوج متماهلًا غير مبالٍ بالطاعات ترشده إلى الصلاة، إلى النافلة، إلى القرآن إلى الدعاء، إلى المجالس الحسينية. التعاضد الروحي ضروري لكون العلاقة الزوجية رصيداً في الدنيا وفي الآخرة ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74]
حتى ننشئ أجيالاً صالحين متدينين علينا أن نكون قدوة لأجيالنا وأبنائنا في طاعة الله وفي الاقتراب منه تبارك وتعالى، هكذا كان علي وفاطمة، هكذا تعلم من علي وفاطمة الحسنان البذل والتضحية في سبيل المبادئ والقيم، القرآن يحكي قصتهم ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا «8»﴾ [الإنسان: 8] ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 9] كان الحسن والحسين أطفالاً صغاراً، ولكن علي وفاطمة يبادران للصدقة فيبادر الحسنان للصدقة. هذا التعاضد الروحي صنع حسناً وحسيناً، هذا التعاضد الروحي صنع أبطال كربلاء، أبطال كربلاء انحدروا من الحسين، والحسين انحدر من بيت علي وفاطمة. أبطال كربلاء كتبوا ورسموا للعالم أروع صور التضحية والفداء، اقتداء بعلي وفاطمة صلوات الله عليهما وآلهما، حتى الصغار يوم كربلاء برزوا بذلك المظهر العظيم للتضحية والفداء ومنهم القاسم بن الحسن.
السيد عادل العلوي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
عدنان الحاجي
الأستاذ عبد الوهاب حسين
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العلم الإلهامي برؤية جديدة
الشيخ عبد الجليل البن سعد: المجتمع الرّشيد
هل خلق آدم للجنّة أم للأرض؟
معنى (الدعاء الملحون)
اختلاف آراء الفلاسفة المادّيّين في حقيقة المادّة
كتاب الدّين والضّمير، تهافت وردّ
عوامل احتمال الإصابة بالسّكتة الدّماغيّة الحادّة
صراع الإسلام مع العلمانية
طريقة إعداد البحث
القانون والإيمان باللّه