علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

هل يمكن إثبات المعجزة علميًّا؟ (1)

إن الحديث العلميّ عن المعجزة لابدّ أن يتركّز على عدة نقاط أساسيَة هي:

1 ـ ما هي المعجزة وما هو تعريفها؟

2 ـ هل الإعجاز يهدم القوانين العقلية المسلَّمة؟

3 ـ هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير عادية فقط؟

4 ـ كيف تدل المعجزة على صدق ادعاء النبوّة؟

5 ـ كيف وبماذا نميز المعجزة عن الخوارق الأخرى؟

إنَّ الإجابة عن هذه الأسئلة كفيلة بتوضيح حقيقة المعجزة وبيان مدى بطلان تفسير المعاجز بالتفسير المادي الطبيعي...

 

1 ـ ما هي المعجزة وما هو تعريفها؟

لقد عرَّف علماء العقيدة المعجزة بتعاريف مختلفة أتقنها وأكملها هو: أنّ المعجزة أمرٌ خارقٌ للعادة مقرونٌ بالدّعوى والتّحدّي مع عدم المعارضة ومطابقة الدعوى .

ويعني الشرطُ الأولُ (أي كون المعجزة أمراً خارقاً للعادة) أن كل ظاهرة من الظواهر الطبيعية الحادثة مرتبطة بعلة حتماً، فلا يمكن صدورها من دون علة وهذا الكون مشحون بالعلل الّتي يكتشفها البشر شيئاً فشيئاً وتدريجاً عبر وسائله العادية أو العلميّة، ولكنّ المعجزة مع كونها ظاهرة واقعية ولهذا فهي كغيرها مرتبطةٌ بعلة بيد أنها تختلف عن غيرها من الظواهر في أنّ من غير الممكن كشف عللها من الطريق العادية أو بواسطة التجارب والتحقيقات العلمية، ولا يمكن تفسيرها وتبريرها بالعِلَل العادية أو بما يكتشفه العلمُ من العلل لمثل هذه الحوادث، والمقصود من خرق العادة هو أنْ تقع المعجزةُ على خلاف ما عهدناه وتعوَّدنا عليه في الظواهر الأخرى وعِللها مثل إشفاء المرضى من دون علاج ودواء كما هو المعهود، وإخراج الماء من صخرة صماء من دون حفر أو تنقيب كما هو المألوف، وتحويل العصا إلى أفعى من دون تبييض وتفريخ وتوالد وتناسل بل بمسح من يد أو بعبارة من لسان أو بضرب من عصا!!

من هنا نكتشف أن كل ظاهرة يقف الناس العادّيون بالطرق العادية أو العلماء خاصة بالطرق العلمية على عللها وأسبابها، لا تكون معجزة لأنّه في هذه الصورة لم يقع أي شيء على خلاف العادة والمألوف ليدل على مزية في الأنبياء. فإن مثل هذه الظاهرة الّتي يكون لها علةٌ عاديةٌ يعرفها جميعُ الناس أو سببٌ علمي خاصٌ يعرفها علماء ومتخصصو ذلك العلم، يمكن أن يقوم بإيجاد أمثالها جميعُ الناس فلا يكون حينئذ معجزة.

ولا يعني هذا أنّ المعجزة لا تنتهي إلى أية علة أصلاً، بل هي تستند إلى علة غير متعارفة وغير عادية، ولمزيد التوضيح سنبحث في هذا المجال عند الإجابة عن السؤال الثالث.

ويُقصَد من الشرط الثاني (أي كون الإعجاز مقروناً بالدعوى) أن يَدّعي صاحبُ المعجزة النبوة والسفارة من جانب اللّه تعالى ويأتي بالمعجزة دليلاً على صحة دعواه هذه، إذ في غير هذه الصورة لا يكون الأمر الخارق للعادة معجزةً، بل يُطلَق عليه في الاصطلاح الديني لفظ الكرامة كما كان لمريم بنت عمران الّتي كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، فإذا سألها من أين لها ذلك؟ قالت: هو من عند اللّه .

ويعني الشرط الثالث أن يكون الإعجاز مقروناً بدعوة الناس إلى الإتيان بمثله وعجز الناس عن هذه المعارضة وعدم قدرتهم على الإتيان بمثله مطلقاً، إذ في هذه الصورة يتضح أَنَّ النبي يعتمد على قوة إلهية غير متناهية، قوة خارجة عن حوزة البشر العادي.

وأما الشرط الرابع فيعني أن الأمر الخارق للعادة إنّما يكون عملاً إعجازياً ويستحق وصف المعجزة الدالّة على ارتباط الآتي بها بالمقام الإلهيّ إذا وافق الأمر الواقع ما يدعي أنه قادر على الإتيان به. فلو قال: سأجعلُ هذا البئر الجاف الفارغ من الماء يفيض بالماء بإشارة إعجازية، ثم يقع ما قاله كان هذا الأمر معجزة حقاً، وأما إذا قال: سأجعل هذا الماء القليل الموجود في البئر يفيض ماء بالإعجاز ولكن جفَّ ذلك البئرُ على عكس ما قال لم يكن ذلك إعجازاً بل كان تكذيباً لمدعيها.

هذا هو خلاصة ما يمكن أن يُقال حول تعريف المعجزة والإعجاز وهو يساعد على فهم طبيعة العمل الإعجازيّ.

 

2 ـ هل الإعجاز يهدم القوانين العقلية المسلَّمة؟

وبهذا يتضح جواب السؤال المطروح في هذا المجال وهو أن يقال: إن قانون العليّة (أي: ارتباط كل معلول حادث بعلة) ممّا ارتكز عليه الذهن البشري وقبلَه العلم والفلسفة، ولذلك فأننا نلاحظ: كلّما وقف الإنسان على ظاهرة مهما كانت ـ بحَثَ عن علّتها فوراً فاذا رأى حية ـ مثلاً ـ عرف بأن علتها الطبيعية هي أن تبيض حيّة ثم خروج حيّة من البيض بعد سلسلة من التفاعلات، فكيف يمكن القبول بالمعاجز مع أنها لا تنشأ عن مثل هذه العلل، ولا تمرُّ بمثل هذه المقدمات والمراحل والتفاعلات الطبيعيّة، مثل انقلاب العصا إلى ثعبان أو نبوع الماء من الصخر من دون حفر أو تنقيب.

أليس هذا هدمٌ أو تخصيصٌ لذلك القانون العقليّ المسَلَّم العام؟ فإن الجواب عن هذا السؤال هو أن مثل هذا السؤال لا يطرحه إلاّ الَّذين يحصرون العلل والعلاقات بين الأشياء في العلل والعلاقات المادية الطبيعية. ولكن الحق هو أنَّ أيَّة ظاهرة مادية يمكن أن يكون لها نوعان من العلل :

1 ـ العلةُ العادية الّتي تخضع للتجربة.

2 ـ العلةُ غير العادية الّتي لا يعرفها الناس ولم تكن متعارفة ولا تخضع للتجربة العلمية.

وهذا يعني أنه لا توجد أية ظاهرة في هذا العالم بدون علة. وتوضيحُ هذا أن أصل وجود الحية ونبوع الماء من الصخرة وتكلم الطفل ـ مثلاً ـ أمرٌ ممكنٌ ولا يُعدّ من المحالات لأَنها لو كانت من المحالات لما تحقق وجودها أبداً. نعم أنها بحاجة إلى علة لكي تتحقق والعلة ـ سواء في المعاجز أو غيرها ـ يمكن أن تكون إحدى الأمور التالية :

أ ـ العلة الطبيعية العادية وهي ما ألفناها واعتدنا عليها مثل ظهور شجرة من نواة بعد سلسلة من التفاعلات.

ب ـ العلة الطبيعية غير العادية وغير المعروفة وهذا يعني أنه قد يكون لظاهرة معينة نوعان من العلل وطريقان للتحقق والوجود أحدهما معروف ومعلوم والآخر مجهول غير معلوم، والأنبياء بحكم اتصالهم بالعلم والقدرة الإلهية يمكن أن يقفوا على هذا النوع مِنَ العلل ـ عن طريق الوحي ـ ويوجدوا الظاهرة.

ج ـ تأثير النفوس والأرواح :فإنَّ بعض الظواهر يمكن أن تكون ناشئة من تأثير أرواح الأنبياء ونفوسهم القوية كما نلاحظ ذلك في مجال المرتاضين الهنود الذين يبلغون درجة يستطيعون معها أن يقوموا بما يعجز عنه الأفراد العاديُّون وذلك بفضل الرياضات النفسية الّتي يخضعون لها. وهو ما يسمى باليوجا أحياناً وقد كتبت حوله كتب ودراسات .

وقد أشار إلى هذا جملةٌ من علماء الإسلام وفلاسفته منهم الفيلسوف الإسلامي الشهير صدر الدين الشيرازي حيث يقول: لا عجب أن يكون لبعض النفوس قوةٌ إلهيةٌ تكون بقوتها كأنها نفسُ العالم فيطيعُها العنصرُ طاعة بدنها لها، فكلّما ازدادت النفسُ ـ تجرداً وتشبّهاً بالمبادئ القصوى ازدادت قوةً وتأثيراً في ما دونها.

وإذا صار مجردُ التصوّر والتوهم سبباً لحدوث هذه التغيّرات في هيوليّ البدن لأجل علاقة طبيعيّة وتعلّق جبلّي لها إليه، لكان ينبغي أن تؤثر في بدن الغير وفي هيوليّ العالم مثل هذا التأثير لأجل مزيد قوة شوقية واهتزاز علوي للنفس ومحبة إلهية لها، فيؤثر نفسُه في إصلاحها وإهلاك ما يضرّها ويفسدها .

د ـ العللُ المجردة عن المادة :فيمكن أن تكون للظواهر علل مجردة عن المادة كالملائكة، بأن تقوم الملائكة بأمر من اللّه سبحانه بتدمير قرية أو تقوم بمعجزة بعد طلب النبيّ منها ذلك. والملائكة مظاهر القدرة الإلهية في الكون وهي الّتي تدبّر أمور الكون بأمر اللّه تعالى كما يقول القرآن الكريم: (فالـمُدَبَّراتِ أَمْراً) وهي بالتالي جنود الله في السماوات والأرض وللّه جنود السماوات .

فلابد من أرجاع الظواهر الطبيعية الواقعة إلى أحد هذه العوامل الأربعة، ولا يمكن أبداً حصر العلة في العلة الطبيعية العادية المعروفة كما تصور منكروا الإعجاز، بل يمكن أن تكون كلّ واحدة من هذه العلل سبباً لحدوث الظاهرة الطبيعية، فإذا لم نشاهد علة ظاهرة من الظواهر لم يجز لنا أن نُبادر ـ فوراً ـ إلى تصوّر أنها ناشئة من غير علة.

ويجب إرجاع معاجز الأنبياء إلى إحدى الطرق الأخيرة والقول بأن الأنبياء استخدموا ـ في إيقاع الخوارق والمعاجز ـ إما العلل المادية غير المعروفة للعرف والعلم، وإمّا نفوسهم القوية الّتي حصلت لهم بفعل الجهاد الروحيّ العظيم والرياضات النفسية الشديدة، فهي علة تلك الأفعال الخارقة للعادة.كما ويمكن أن تكون جميع تلك الأفعال العجيبة ناشئة عن جملة من العلل والعوامل الغيبية المدبِّرة للكون بأمر اللّه ومشيئة. إذن فلا تتحقق المعجزة بدون علة كما يُتصوَّر ولا يهدم الإعجاز القوانينَ العقلية المسلّمة.

 

3 ـ هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير معروفة فقط؟

قد يتصور البعض أن المعاجز تصدر عن علل مجردة عن المادة فقط، نافين أن تكون لها أيّة علل مادية معروفة أو غير معروفة، في حين لا يصحّ هذا السلب الكلي إذ ما أكثر الخوارق الّتي تنشأ عن أمور عادية وعبر سلسلة من التفاعلات الطبيعية.

فعندما يرقُد مرتاض هندي ليمرَّ عليه تراكتور من دون أن تحدث في جسمه أية جراحات أو إصابات فإن هناك اأموراً مادية كثيرة دخلت في هذا الأمر الخارق مثل: وقوع هذا الحدث في إطار الزمان الخاص والمكان الخاص ومثل جسم المرتاض وماكنة الحراثة. فإن جميع هذه الأشياء المادية أثّرت في ظهور هذا العمل الخارق.

وهكذا عندما تنقلب عصا الكليم (عليه‌ السلام) إلى حية على نحو الإعجاز، فإن العصا شيء مادي وهكذا الحال في غيره من الموارد. ولهذا لا يمكن أن نتجاهل تأثير العوامل والأمور المادية في ظهور الأمور غير العادية، وننكر دخالتها بمثل هذا الإنكار. وهذه هي أكثر النظريات اعتدالاً في هذا المجال.

وفي مقابل ذلك التفريط أفرط آخرون إذ قالوا: إن جميع المعاجز والخوارق ناشئة من علل مادية غير معروفة. وحتّى ما يقوم به المرتاضون يعود إلى هذه العوامل الطبيعية الّتي لا يعرفها ولا يقف عليها حتّى النوابغ من الناس فضلًا عن العاديين، لأن العوامل الطبيعية على نوعين: المعروفة وغير المعروفة، والناس يستفيدون في حياتهم اليومية ـ في الأغلب ـ من القسم الأول بينما يستخدم الأنبياء والمرتاضون تلك العوامل الطبيعية غير المعروفة الّتي وقفوا عليها وأدركوها دون غيرهم.

والسبب في وصفنا هذه النظرية بالإفراط والتطرُّف، هو عدم وجود دليل لإثباته، بل يمكن أن يقال إن مثل هذا الموقف ناشئ عن الانهزامية تجاه العالم المادي، أو أنه لإرضاء الماديين والنافين لما يدخل في إطار العالم المادي، فإن الماديين يرفضون أي عالم آخر غير الطبيعة وآثارها وعلاقاتها وخواصها، وحيث أن إرجاع المعجزات إلى العلل المجردة عن المادة يخالف منطق الماديين ويضادد اتجاههم وتصورهم، لهذا عمد أصحاب هذه النظرية (نظرية إرجاع المعاجز والخوارق إلى علل طبيعية غير معروفة وغير عادية) إلى مثل هذا التفسير إقناعاً للماديين إارضاء لهم فقالوا: إن جميع الخوارق والمعاجز ناشئة من علل طبيعية ومادية على الإطلاق غاية ما في الأمر أَنها علل غير معروفة شأنها شأن كثير من العوامل الطبيعية المجهولة. ونحن بدورنا نترك هذه النظرية في دائرة الإجمال وبقعة الإمكان لعدم الدليل لا على طبقها ولا على خلافها.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد