مقالات

لا يدرك الخير إلّا بالجدّ

الشيخ محمد جواد مغنية

 

أبدًا.. لا جبر ولا إكراه في دين اللّه، ولكن فيه حرج ومشقة، بل وقتل وقتال كبير في سبيل ما هو أغلى من الروح وأثمن، ولا وزن للروح بلا حرية وكرامة.. أجل، إن اللّه سبحانه لا يكلف أحدًا ما لا يملك، ولكن من الذي لا يملك نفسه وبيعها للرحمن أو الشيطان؟.. ومن هنا عرض سبحانه على من آمن به أن يشتري منهم الأنفس بالجنة خالدين فيها، كما في الآية 111 من التوبة: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ).

 

أما الآيات التي تومئ إلى اليسر والرحمة، ونفي العسر والحرج في دين اللّه وشريعته - فإن مكانها وإطارها العبادات والمعاملات، وما إلى ذلك مما يعود إلى نظام الحياة الاجتماعية، ولا صلة لها إطلاقًا بما يلقاه المناضلون ضدّ البغي وأهله، والشر وفاعله. قال سبحانه: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) 39 الأنفال. (وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ) 78 الحج.

 

وهل بعد هذا يسوغ لساكت عن الحق أن يبرر تجاهله أو تحايله بآية لا حرج، ورواية لا ضرر؟. والخلاصة أن الآيات القرآنية منها ما نزلت لتحديد الواجبات الخاصة كالصوم والصلاة، أو لتحديد المحرمات كأكل الميتة وشرب النجس.. وهذه تقوم، ولا شك، على أساس اليسر الذي لا يشوبه عسر، ومنها تأمر وتحث على الجهاد في سبيل المثل الأعلى، وهذه لا ترحم وترفق على الإطلاق، وتوصي بتحمل الأذى والصبر على الآلام: (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) 25 النساء. (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) 12 إبراهيم. (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) 18 لقمان.

 

وهناك آيات أوضح كقوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) 9 الحشر. وكلما كان البذل وتحمل الجهد أكثر تضاعف الثواب: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ . إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) 120 التوبة.

 

نزلت هذه الآية في الصحابة الذين طلبوا مرافقة الأنبياء، ودفعوا أنفسهم لها ثمنًا...

 

الإيمان أولاً:

للإيمان رسول وتعاريف، منها أنه معرفة بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان. وقال الإمام جعفر الصادق (ع): الإيمان عمله كله، ولا إيمان بلا عمل، وليس من شك أن الإيمان مكانه القلب، وأنه ملكة من ملكات النفس، ولكنه لا يتم ويستقيم إلا مع قوة الإصرار على العمل بموجبه حتى ولو كان العمل قطع الرؤوس، وبقر البطون.

 

قال عبد اللّه بن جحش في وقعة أحد: اللهم إني أقسم عليك أن ألقى الأعداء غدًا فيقتلوني، ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني فيم تمّ ذلك؟. فأقول: فيك.

وليس هذا مجرد أمنية.. كلا، إنه صرخة الإيمان، ولهفة الولهان إلى رضوان اللّه ومغفرته. وكان عمرو بن الجموح أعرج، وله أربعة بنين يحاربون مع رسول اللّه (ص) وأراد أن يجاهد بين يدي الرسول، فمنعه بنوه وقالوا: إن اللّه سبحانه قد وضع عنك الجهاد.. ولكنه أصر، وأصروا بدورهم.. فشكاهم إلى رسول اللّه فقال له: أما أنت فقد وضع اللّه عنك الجهاد. فقال عمرو: واللّه اني لأرجو الشهادة، وأن أطأ بعرجتي هذه الجنة فلا تحرمني منها يا رسول اللّه.. أبدًا لا بد أن أدخلها. ولما رأى النبي (ص) حرقته ولهفته أغاثه. وقال لبنيه: ما عليكم أن تدعوه لعل اللّه يرزقه الشهادة. فانتشى عمرو بفرحة البشرى، وجاهد حتى استشهد. قال سبحانه: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) النور 61.

 

رفقًا بعباده الضعفاء، ورفض عمرو أن يستريح إلى عرجته، وأن يكون له عذرًا وحجة، وأبى إلا القتل عن إصرار وعمد، وأقره النبي (ص) على ذلك «1» وبارك شهادته.. وكل ما بين هذا الأعرج الجموح، وبين الذين ينتسبون إلى اللّه ويتوقون إلى جنته، كما يتوهمون، ثم يتملصون من كل واجب ديني وإنساني متعالمين بالأعذار الكاذبة الخاوية. وفي السيرة العطرة العديد من هذه المواقف، وكل واحد منها يدمغ الانهزاميين، ويفضح المضللين.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد