فجر الجمعة

الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (2)

تحدّث سماحة الشيخ عبدالكريم الحبيل في خطبة له بعنوان: (القلب السليم في القرآن الكريم) بجزئها الثاني وفيها تناول ضفة من صفات القلب السليم في القرآن الكريم وهي الطمأنينة ، وذلك 4-10-2024 في مسجد الخضر عليه السلام في جزيرة تاروت - الربيعية

 

أيها الإخوة الكرام والأخوات المؤمنات، كما وعدنا في الجمعة السابقة أن حديثنا سيتواصل في موضوع "القلب السليم" في القرآن الكريم.

قال تعالى: "فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ، وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ، كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ".

نظرة عامة لموضوعنا السابق:

في الجمعة الماضية تحدثنا عن:

أولًا: تعريف القلب في القرآن الكريم، وقلنا إن القلب في القرآن الكريم جاء على ثلاثة معانٍ:

١. المعنى الأول بمعنى العقل، واستشهدنا عليه بآيات من الذكر الحكيم.

٢. المعنى الثاني بمعنى الروح والنفس، واستشهدنا عليه بآيات أخرى.

٣. المعنى الثالث بمعنى مركز العواطف والأحاسيس، وذكرنا الآيات التي جاءت بهذا المعنى.

 

ثانيًا: تحدثنا عن منزلة القلب.

ثالثًا: عرفنا القلب السليم، ما هو القلب السليم؟ اخترنا التعريف المروي عن الإمام الصادق عليه السلام، وآخر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وثالثًا عن علي عليه السلام في تعريف القلب السليم.

رابعًا: ذكرنا أقسام القلب في القرآن الكريم، وذكرنا أن القرآن الكريم قسّم القلب إلى قسمين:

١. القلب السليم.

٢. القلب المريض.

 

في هذا الأسبوع سنتحدث عن صفات القلب السليم في القرآن الكريم. هناك عدة صفات ذُكرت للقلب السليم في القرآن الكريم، وسنتحدث في هذا الأسبوع عن صفة واحدة.

أول تلك الصفات هو (الاطمئنان). القلب السليم هو قلب مطمئن، قال تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ".

ذكر الله يطمئن تلك القلوب. ما هي الطمأنينة؟ يقول الراغب الأصفهاني في كتابه "معاني مفردات القرآن الكريم" أن الطمأنينة هي "السكون بعد الانزعاج أو زيادة اليقين بالمشاهدة". إما سكون بعد انزعاج أو زيادة يقين على يقين.

سكونٌ بعد انزعاج يعني أن القلوب المريضة منزعجة، بينما القلوب المؤمنة، القلوب السليمة، ساكنة مطمئنة مسلّمة إلى الله سبحانه وتعالى تسليمًا خالصًا من أيّ شك أو ريب. الشكوك أمور قلبية، والظنون أمر قلبي، والريب أمر قلبي، يجعل الإنسان في حالة تردد. قال تعالى: "بَلْ هُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ"، فالقلب الذي به ريب يكون قلبًا غير ساكن، غير مستقر، قلبًا مترددًا. وكذلك القلب الشاك غير ثابت، شاك بين أمرين. الشك هو انقسام الشيء إلى نصفين متساويين؛ يشك في الأمر، أما أن يكون هذا أو أن يكون ذاك. بينما القلوب السليمة قلوب مطمئنة، ثابتة بمعنى ساكنة مستقرة على أمر، ليس فيها ريب، فتكون مترددة، وليس فيها شك، وليس فيها ريب، وليس فيها ظنون باطلة.

إذاً السكينة هي السكون بعد الانزعاج أو زيادة اليقين بالمشاهدة، كما في قصة إبراهيم عليه السلام: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ، قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ، قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي".

 

هنا إبراهيم عليه السلام لديه يقين بالدليل والبرهان أن الله سبحانه وتعالى قادر على إحياء الموتى بعد أن تصبح رميمًا، كما قال علي عليه السلام: "عجبت لمن ينكر النشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى". فإبراهيم الخليل عليه السلام كان مسلمًا بالدليل والبرهان أن الله سبحانه وتعالى قادر على إحياء الموتى، ولكنه أراد أن يرى جمال الإحياء. أراد أن يرى جمال صنع الله ليضيف إلى الدليل المشاهدة، وليضيف إلى البرهان العقلي المشاهدة (الرؤية)، ولا شك أن الرؤية تزيد ذلك الإيمان اطمئنانًا أكثر، ويرتقي إلى درجة أعلى حين يرى ما كان يعتقد به، وما رأى كمن سمع.

"قال فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ"؛ خذ أربعة من الطيور (صرهن إليك) يعني ضمهن إليك، أي اجعلهن عندك لتربيهن لفترة معينة، بحيث تعرفهن حق المعرفة، تعرف أن هذه هي الطيور التي ربيتها، وأنت على معرفة تامة بها. "صرهن إليك" لتعرفهن معرفة تامة وكاملة. "قال فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ، ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا".

ثم اجعل على كل جبل جزءًا، قطعهن إلى قطع، خذ الطيور وقطعها إلى أجزاء، ولا تجعلها متقاربة بل متباعدة جدًّا. "ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا"، وربما كان ذلك في مكة لأنها منطقة كثيرة الجبال، "ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا، "ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا"، أي قل لهن تعالين، فيأتينك سعيًا. "واعلم أن الله على كل شيء قدير".

 

يطرح هنا سؤال مهم: لماذا سأل نبي الله إبراهيم هذا السؤال؟ هل هو غير مصدق بقدرة الله على الإحياء يوم القيامة؟

قلنا في الإجابة إنه كان يريد أن يرى جمال الصنع، كما أن نبي الله عزير أراد أن يرى جمال صنع الله في حماره، فقال له: "انظر إلى حمارك".

الأنبياء يريدون أن يروا جمال الصنع الإلهي. أنت الآن قد تؤمن بأن هذه السيارة مثلاً صنعت في اليابان، ولكن إذا ذهبت إلى المصنع وشاهدت كيفية تصنيعها بعينيك، فهناك فرق كبير بين الأمرين، أليس كذلك؟

لماذا إذن يطلب الأنبياء هذه الأشياء؟ عزير يريد أن يرى، إبراهيم يريد أن يرى، وموسى عليه السلام أراد أن يرى مشيئة الله في الكون.

الأنبياء يبلغون البشرية عن الله، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم حينما يخبر الناس عن الجنة والنار، فهو لا يخبرهم فقط من باب الإيمان بالغيب كما نفعل نحن، بل لأنه قد رآهما بعينيه. الله سبحانه وتعالى أراه ملكوت السماوات والأرض.

 

إذاً الطمأنينة تأتي بمعنى السكون بعد الانزعاج أو زيادة اليقين بالمشاهدة، كما حدث مع إبراهيم الخليل عليه السلام.

وأما السكون بعد الانزعاج فقد جاء في آيات أخرى. الطمأنينة هنا بمعنى "يقين النفس". قال تعالى: "وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ".

وقد يأتي الاطمئنان بمعنى ثبات العقيدة، كما قال تعالى: "مَن كَفَرَ بِاللَّهِ بَعْدَ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ".

وقد تأتي الطمأنينة بمعنى السكينة، قال تعالى: "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ".

إذاً من صفات القلب السليم أنه قلب مطمئن. قال تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ".

 

هذه الصفة الأولى من صفات القلب السليم في القرآن الكريم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

"إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا".