فجر الجمعة

الشيخ محمد علي الأحمد: مقومات اليقين وآثاره

ألقى سماحة الشيخ محمد علي الأحمد خطبة الجمعة، 1446/3/30هـ في جامع الإمام الباقر في صفوى، وفيها تناول موضوعًا بعنوان: " مقومات اليقين وآثاره" والتي منها الاستعداد الفطري والإخلاص والنيّة الصّافية والعقل الراجح الصّالح..

 

أعوذ بالله من الشيطان الغوي الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المتفضِّل فلا يبلغ مدحته الحامدون، المنعم فلا يُحصي نعمته العادّون، الكريم فلا يحصر مدى كرمه الحاصرون، الكامل في ذاته وصفاته فلا يقدر على إدراكه المجتهدون، القديم فلا أزلي سواه، الباقي فكل شيء فانٍ عداه، القادر فكل موجود منسوب إلى قدرته، العالم فكل شيء مندرج تحت عنايته. نحمده إلهي على إفضالٍ أسداه إلينا، ونشكره على نوالٍ تكرّم به علينا، ونستزيدُه من نعمِه الجسام، ونسترفِدُه من عطاياه العظام. والصلاة والسلام على أشرف النفوس الزكية، وأعظم الذوات القدسية، محمد وآله وعترته الهادية المهدية، صلاةً تامةً، ناميةً، باقيةً إلى يوم الدين.

أُوصيكم عباد الله، ونفسي بتقوى الله تعالى، واتباع أوامره، واجتناب معاصيه. قال تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ". لعلَّ من أهم ما يجب أن نقف عنده هو مسألة اليقين؛ اليقين الذي أحد معانيه الجزم المطابق للواقع. تصبح للإنسان معرفة لا يعتريها أي شك، ولا يعتريها جهل في أي مفردةٍ من مفرداتها. هذا هو الإنسان الذي لديه يقين، معرفة مطابقة للواقع، فهو ليس قابلاً للتردد أبدًا؛ إذ يحكم على الأشياء حكمًا يقينيًا.

 

مشكلة إنسان اليوم، كما كانت في الماضي، هي مشكلة فقدان اليقين أو ضعفه أو قلة اليقين، في حين أن هذه الصفة من أبرز الصفات التي يجب أن تتوفر في الشخصيّة المؤمنة وفي المجتمع المؤمن، حيث قال تعالى: "هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ". بل يُعرف الإنسان الذي لديه دينٌ قوي من خلال قوة يقينه؛ ففي الرواية: "على قدر الدين تكون قوة اليقين"، فكلما قوي الدين، زادت قوة اليقين، وهذه من الصفات الكمالية التي لا ينالها بأعلى مراتبها إلا قسمٌ خاصٌ من الناس، كما قال تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ".

ومسألة اليقين وردت في الروايات لدينا، حيث يُذكر في الحديث: "لم يُقسم بين العباد شيء أقل من اليقين". فاليقين رزقٌ يقسمه الله بين العباد، لكن من ينال هذا الرزق؟ هم أولئك الذين كانت لهم قوة في الدين وقوة في اليقين، إذ اليقين هو أقلُّ رزقٍ قُسِّم بين الناس، وهو مقام لا يصل إليه كل أحد، بل يصل إليه الإنسان بمستوى همّته.

 

أما من يفتقد هذه الصفة الكمالية، فسيعيش في تردد، وتتراكم الظنون لديه. تجد اليقين بأعلى مستوياته عند الأنبياء؛ فعلى سبيل المثال، خليل الله إبراهيم، الذي عاش الذوبان في الله، وامتلك يقينًا حتى لو هُدد في حياته، كان شعاره: "الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين". أراه الله ملكوت السماوات والأرض ليكون من الموقنين، فامتلك يقينًا راسخًا.

لذلك، عندما أريد الحكم على أمر سمعته، إن كان صحيحًا أم لا، يجب أن أعرف مستوى اليقين الذي لدي حول هذا الأمر أو ما سمعت، وكذا الحال عند التأمل في بعض الشخصيات.

في زمن أمير المؤمنين عليه السلام، كان هناك من يمتلك يقينًا ثابتًا كمالك الأشتر النخعي رضوان الله عليه، الذي قال عنه أمير المؤمنين عند نعْيِه: "والله لو كان جبلاً لكان فندًا". كان مالك يمتلك يقينًا خاصًّا، لذا لم يشك أبدًا في صحة طريقه وصحة ما اتخذه من موقفٍ إلى جانب إمامه المعصوم عليه السلام. لم يضعف يومًا، لا في دفاعه عن الدين، ولا عن إمام زمانه أمير المؤمنين. وهذا اليقين الراسخ ليس مقتصرًا على الأنبياء أو الأوصياء، مما يعني أن الإنسان العادي يمكن أن يصل إلى درجةٍ عالية من اليقين.

 

لكن ما هي مقومات هذا اليقين؟ عند تأمل الآيات القرآنية وما جاء عن أهل البيت عليهم السلام، نجد أن أول مسألة يؤكدون عليها هي إصلاح النفس. إذا أردت أن أمتلك اليقين، يجب أولاً أن أبدأ بإصلاح النفس؛ يقول الإمام الكاظم عليه السلام في وصاياه: "تَعَاهَدُوا عِبَادَ اللهِ بِإِصْلَاحِكُم أَنْفُسَكُم تَزْدَادُوا يَقِينًا". فإصلاح النفس هو من أهم مقومات اليقين.

إلى جانب ذلك، فإن الاستعداد الفطري، أو وجود النور الداخلي، هو ما يُمَكِّن الشخص من استقبال أي فعلٍ بدرجة يقين. حين تنظر إلى أصحاب اليقين، تجد أنهم يمتلكون فطرةً سليمة، وهذا ما يجعلهم أكثر الناس يقينًا.

ومن مقومات اليقين كذلك الإخلاص. فالموقن يكون مخلصًا في عمله، وجاء في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام أن اليقين يُستدل عليه بقصر الأمل وإخلاص العمل. فالإخلاص يستدعي يقينًا بذلك العمل، فلا يكون همه الشهرة، أو الصيت، أو المدح، بل يكون همه أن يكون عمله خالصًا لوجه الله تعالى. ولهذا ترى أصحاب اليقين يُخفون الكثير من أعمالهم الصالحة حتى لا يتسلل إليها شيء من الرياء، ويكونون مخلصين في أعمالهم، بعيدين عن أعين الناس.

 

أيضًا، من مقومات اليقين النية الصافية؛ إذ لا بد أن تكون نية الإنسان خالية من الشوائب، لأن النية غير الصافية تنعكس سلبًا على يقينه، أما النية الصافية فهي من أعظم مقومات اليقين وأشدها تأثيرًا.

من مقومات اليقين أن يمتلك الإنسان عقلاً راجحًا صالحًا، وقليل الأوهام، فيصل إلى اليقين كلما ارتقى عقليًا. فهذه مقومات أساسية للتحصيل على اليقين. لكن ماذا لو لم يكن لدى الإنسان الصبر اللازم لذلك؟ لا يمكن الوصول إلى اليقين دون صبر، فالصبر هو أول لوازم الإيقان. وقد وصفت الآية القرآنية الأئمة الهداة بقول الله تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ". من أبرز صفات هؤلاء وجود حالة قلبية لديهم من اليقين والصبر على العمل، والصبر في مواجهة الباطل.

لا بد من توفر البصيرة؛ فكلما زادت بصيرة الإنسان، ازداد يقينه وارتقى في مراتب اليقين من علم اليقين إلى عين اليقين وصولاً إلى حق اليقين، وهي مراتب عليا. يصل بعض أولياء الله إلى حق اليقين، وهو المرتبة التي لا فوقها يقين، كما في قوله تعالى: "وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ". حتى أولئك الذين ينكرون الدين، عندما تنكشف لهم الحقيقة يوم القيامة، يقرون باليقين، كما في الآية: "رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ"، ويقرون بأنهم كانوا على خطأ.

 

ولا شك أن لهذا اليقين ثمرات عظيمة؛ فعندما تجد الإنسان ثابتًا على موقفه، لا يحمل في قلبه إرادة غير إرادة الله سبحانه، متعلقًا بهذه الإرادة، ستجده لا يقترف الذنوب، ولا يظلم أحدًا، لأن ضعف اليقين أو انعدامه هو ما يدفع الإنسان للظلم والمعاصي. جاء في الرواية وصف لأهل اليقين بأنهم: "أُولئِكَ الَّذِينَ قُلُوبُهُم كَزُبَرِ الحَدِيدِ"، كنايةً عن متانة يقينهم. إنسان كهذا، يلتزم بالدين وأحكامه، ويمتلك الرؤية الصادقة.

وفي المقابل، هناك من يعمل في الحياة دون يقين، وتشبّه الروايات مثل هذا الإنسان بـ"الخرقة البالية"، وذلك لقلة ثباته. لذا، يسأل المؤمن الله أن يوصله إلى مرحلة اليقين، كما في الدعاء: "اللهم إني أسألك إيمانًا تباشر به قلبي، ويقينًا حتى أعلم أنه لا يُصيبني إلا ما كتبت لي، ورضّني بما قسمت لي". وفي الدعاء أيضًا: "اللهم اقسم لنا من اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدنيا".

وما أكثر مصائب الدنيا! لكن صاحب اليقين هو القوي الذي يثبت في وجهها، أما الضعيف فمتزلزل وجازع. فالإنسان قوي اليقين هو من يعيش الاستقامة في العبادة، وارتباطه بالحق ثابت، لا يتزلزل.

 

فكيف أعرف أنني أمتلك صفة اليقين؟ أمير المؤمنين عليه السلام عندما ذكر هذه الصفة قال: "بقصر الأمل وإخلاص العمل". فعندما أجد أن همي ليس الشهرة، ولا الصيت، ولا السمعة، وأبدّل كل ما لدي لوجه الله تعالى، دون تعلقٍ بالمادة تعلقًا تامًا، يكون لدي يقين. وقد تحدث أمير المؤمنين مع أحدهم ممن استبدل الفاني بالباقي، واستبدل الله بالدنيا، فقال له: "لو صح يقينك لما استبدلت الفاني بالباقي، الله هو الباقي، ولا بعتَ السنيَّ بالدّني". إن شأن السواد الأعظم من الناس هو عشقهم للمادة، واهتمامهم بها، أما الإنسان الموقن فهو من يبتعد عن هذه الدنيا بقدر ما يستطيع، ويشوق قلبه إلى الله.

ومن علامات الإنسان الموقن وآثار اليقين أنه، بفضل نور الإيقان الذي دخل إلى قلبه، يكون دائم الشوق إلى الله. وقد وصف أمير المؤمنين المتقين بقوله: "لولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أبدانهم شوقًا إلى الثواب وخوفًا من العقاب". فالشوق إلى الله هو شيمة الموقنين، فهم يشتاقون إلى رحمة الله تعالى.

 

ومن آثار اليقين أيضًا أن يعمل الإنسان لله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإن الله يراه. إضافةً إلى ذلك، يدرك الإنسان الموقن يقينًا أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ فثقته عظيمة بما عند الله. قد يثق البعض بما في أيدي الناس، لكن المؤمن المتيقن يتبع قول أمير المؤمنين: "لا يصدق عبدٌ حتى يكون بما في يد الله سبحانه أوثق منه بما في يده". لذلك، لو ضاقت عليه الدنيا، فإنه يعلم أن رزقه مقسوم من الله، كما قال تعالى: "وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ". وفي الرواية أيضًا: "لو أن أحدكم فرَّ من رزقه كما يفر من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت".

ومن آثار اليقين أيضًا أن الإنسان يقوم بتكليفه دون تقاعس، ويؤدي واجبه بثقة في أن الله هو الناصر، سواء في مواجهة العدو الداخلي المتمثل في النفس، أو في مواجهة التحديات الخارجية، فينتصر داخليًّا وينتصر خارجيًّا بفضل الله.

لكن بشرط الحركة والعمل، فالآية تقول: "إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ". فلا بد من حركة ولا بد من عمل. وإذا علم الله سبحانه وتعالى من حركة العبد أنه صادق في نيته ومخلص في عمله، فإنه لا يتركه، كما قال تعالى: "وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ". فالانتصار في كل مجالات الحياة يحتاج إلى يقين وحركة.

 

أما الإنسان الذي لا يعيش حالة اليقين، فإنه لا يمتلك عقيدة صلبة، وإن امتلكها، فهي إما ليست صحيحة أو ليست صادقة، أو هو غير متيقن منها. لذلك، تجد هذا الإنسان متذبذبًا، شاكًّا، مترددًا، متزلزلًا، ولم تحصل له أسباب النصر المادية، فيكون إنسانًا منهزمًا. أما الإنسان المتيقن، فهو يؤدي تكليفه بكل إخلاص وثبات، والله سبحانه وتعالى يسدد خطواته.

ولا شك أن الإنسان في هذا الزمان يتعرض لكثير من الامتحانات الإلهية، كما تصف الآية الكريمة: "وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ". فالإنسان الموقن يصل إلى مرحلة يطلع فيها على حقائق الأشياء، فتنكشف له الحقائق دون أي شائبة، فيصبح مطمئنًا إلى قدرته على التغلب على وساوس نفسه وأوهامها. كما جاء في الرواية عن المؤمن المتقي: "هجمَ بهم العِلم على حقائِق الأمور، وباشَروا رُوحَ اليقين". يصل هذا الإنسان إلى مرحلة اليقين في أعلى مستوياته، ويستلين ما استصعبه المتّرفون، ويأنس بما استوحش منه الجاهلون، فيصحب الدنيا بأبدانٍ أرواحها معلقةٌ بالملأ الأعلى.

 

وأمير المؤمنين عليه السلام يوصينا قائلاً: "أحيِي قلبَك بالموعِظة، وأمِتُه بالزهادة وقوةِ اليقين". فالإنسان متى امتلك قوةً في اليقين، فإنه يستطيع أن يحوّل التحديات إلى فرص. وإن كان في الدنيا بجسده، إلا أن روحه تكون نافذة إلى الملكوت.

أسأل الله تعالى أن يجعلنا من أولئك الذين يترقون في سُلّم الكمال حتى يصلوا إلى درجة اليقين.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد