فجر الجمعة

الشيخ عبد الجليل الزاكي: المظهر المادي للكفر بالله

تحت عنوان " المظهر المادي للكفر بالله " تحدثّ الشيخ عبد الجليل الزاكي في مسجد عيد الغدير بسيهات، وذلك في 21 ربيع الثاني 1446 ه في مسجد عيد الغدير بسيهات.

 

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، حمدًا لا انقطاع له إلا برضاه، وبعد الرضا. وأشهد أن لا إله إلا الله، إلهًا واحدًا، أحدًا، صمدًا، حيًّا، قيّومًا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا. ثم الصلاة والسلام على أشرف النبيين والمرسلين، حبيب قلوب المؤمنين الصادقين المخلصين، المسمى في السماء بأحمد وفي الأرض بأبي القاسم المصطفى محمد. وعلى آله الطيبين الطاهرين المنتجبين المعصومين، لا سيما بقية الله في الأراضين، صاحب العصر والزمان، أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد. اللهم بلغ مولاي صاحب الزمان (صلوات الله عليه) عن جميع المؤمنين والمؤمنات في مشارق الأرض ومغاربها، وبرها وبحرها، وسهلها وجبلها، حيهم وميتهم، وعن والديّ وولديّ وعني من الصلوات والتحيات زنة عرش الله، ومداد كلماته، ومنتهى رضاه، وعدد ما أحصاه كتابه وأحاط به علمه.

اللهم إني أجدد له في هذا اليوم وفي كل يوم عهدًا وعقدًا وبيعة في رقبتي. اللهم كما شرفتني بهذا التشريف وفضلتني بهذه الفضيلة وخصصتني بهذه النعمة، صلِّ على مولاي وسيدي صاحب الزمان، واجعلني من أنصاره وأشياعه والذابين عنه، واجعلني من المستشهدين بين يديه، طائعًا غير مكره، في الصف الذين وصفت في كتابك: "صفًّا كأنهم بنيان مرصوص". اللهم هذه بيعة لهم في عنقي إلى يوم القيامة. اللهم ثبتنا على هذه البيعة، واجعلنا معه ومع أهل بيته الطيبين الطاهرين في الدنيا والآخرة، ولا تجعل بيننا وبينهم طرفة عين أبدًا، ببركة الصلاة على محمد وآل محمد. اللهم صلِّ على محمد وآل محمد.

 

الذنوب والمعاصي كمصدر انهيار

ما زال حديثنا مستمرًا حول حياة المجتمعات وعوامل انهيارها. ذكرنا في السابق أن الكفر بالله وما يترتب عليه من فساد هو أحد الأسباب الرئيسية لهلاك المجتمعات والأمم، بل حتى انهيار شخصية الإنسان نفسه. وعليه، فإن الكفر بالله لا يؤدي فقط إلى فقدان البُعد الإيماني، بل يمتد ليؤثر على الأسرة والمجتمع، بل والحضارات بأكملها.

من بين العوامل المهمة التي تؤدي إلى انهيار الأمم هي الذنوب والمعاصي. هذه الذنوب ليست فقط أفعالًا فردية، بل تشمل أيضًا جوانب اجتماعية واقتصادية وأخلاقية تُفضي إلى تفشي الظلم، الفساد، والانحرافات بمختلف أشكالها.

 

آثار الذنوب على المجتمعات

تفشي الظلم والفوضى

انتشار الذنوب يؤدي إلى شيوع الظلم بكل أشكاله:

السرقات.

البطالة.

الزنا واللواط (والعياذ بالله).

القتل ودماء الأبرياء.

عندما تسود هذه الظواهر، ينهار التماسك الاجتماعي، ويصبح المجتمع عرضة للتشتت والفشل، كما ذكر الله تعالى في قوله: "فلا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم". (الأنفال: 46). هذا النزاع والفشل هو نتيجة مباشرة للكفر والعصيان والذنوب المتفشية بين الأفراد والمجتمعات.

 

الذنوب كسبب للهلاك

الذنوب والمعاصي تؤدي إلى هلاك المجتمعات والأمم، كما بيّن القرآن الكريم في العديد من المواضع. في سورة الأنعام، يقول الله سبحانه وتعالى: ("أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ). (الأنعام: 6).

الله عز وجل منحهم كل سبل العيش والحياة الكريمة، ومع ذلك أصروا على العصيان وارتكاب الذنوب، فكان الهلاك نتيجة حتمية.

 

قصص من الأمم السابقة

القرآن الكريم يعرض قصصًا كثيرة عن أقوام أهلكهم الله بسبب ذنوبهم: "كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم". (الأنفال: 52). "وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون". (البقرة: 50). فرعون وقومه مثال واضح على أن الطغيان والتجبر، المصحوب بالذنوب والمعاصي، يؤدي إلى الهلاك.

 

الذنوب تهدد الأفراد والمجتمعات

على مستوى الفرد:

الذنوب تؤدي إلى انهيار شخصية الإنسان الإيمانية والإنسانية.

على مستوى الأسرة:

 المعاصي تتسبب في تفكك الأسرة وانهيار روابطها.

على مستوى المجتمع:

انتشار الذنوب يؤدي إلى انحراف القيم وتفشي الفساد في كل جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

على مستوى الحضارة:

حضارات كاملة انهارت نتيجة الابتعاد عن القيم الإلهية وانتشار المعاصي والظلم، كما حدث مع أقوام مثل عاد وثمود.

إذًا الذنوب ليست فقط خطايا فردية، بل هي عوامل انهيار شامل للمجتمعات والحضارات. القرآن الكريم يوضح هذه الحقيقة مرارًا وتكرارًا، محذرًا من عواقب المعاصي والظلم والطغيان.

 

الذنوب والمعاصي: تحذير قرآني للأمة المحمدية

الأمة المحمدية هي الأمة المرحومة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. لقد رفع الله عن هذه الأمة كثيرًا من مظاهر العذاب، مثل الخسف والإبادة الكاملة، بفضل وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله. ومع ذلك، فإن الذنوب والمعاصي ما زالت تشكل خطرًا يهدد الأمة بالهلاك والانهيار، إذا لم يتم التصدي لها بجدية وإصلاح.

 

الذنوب والمعاصي: أسباب الهلاك

الذنوب كنوع من الخذلان والذل والطغيان:

الذنوب تُظهر الطغيان والظلم، وأعظم أنواع الظلم هو ظلم الإنسان لنفسه.

القرآن الكريم يعبر عن هذا بقوله: "خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ". (الحج: 11).

 

الذنوب كمظهر للكفر والشرك بالله:

الذنوب هي انعكاس مادي ملموس للكفر بالله أو الشرك به.

هي مظهر للانحراف عن الإيمان بالله، عن القيم الإنسانية، وعن المبادئ الإلهية.

 

الانحراف الناتج عن الذنوب:

الذنوب تؤدي إلى الانحراف عن العبادة الحقة وعن الالتزام بأوامر الله سبحانه وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت".

 

ممارسات مخالفة لأحكام الله:

الذنوب تُمارس في مختلف جوانب الحياة:

على المستوى الفردي: تؤدي إلى انحراف الشخص عن طريق الله.

على المستوى الأسري: تزعزع استقرار الأسرة وتؤدي إلى انهيارها.

على المستوى المجتمعي: تخلق مجتمعًا فاسدًا بعيدًا عن القيم الإلهية.

على المستوى الدولي والسياسي: تظهر في العلاقات الدولية الجائرة، الفساد الاقتصادي، والسياسات البعيدة عن العدل.

 

التحذير من الهلاك:

الذنوب والمعاصي تمثل انحرافًا كبيرًا يقود إلى الهلاك، كما حذر الله تعالى في العديد من الآيات القرآنية: "أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ... فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ" (الأنعام: 6). "كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ". (الأنفال: 52).

 

التحذير للأمم والمجتمعات

الذنوب ليست مجرد أخطاء فردية، بل هي تحذير للأمة والمجتمعات من الانهيار إذا تمادت في العصيان.

 

إنذار إلهي:

الذنوب والمعاصي هي بمثابة إنذار وتحذير للأمة من انهيار حتمي إذا لم تعُد إلى الله. "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا". (الإسراء: 16).

 

دور الذنوب في انهيار وهلاك المجتمعات: العوامل الغيبية

تكمن خطورة الذنوب والمعاصي في أنها لا تؤثر فقط على الأفراد، بل تمتد آثارها إلى المجتمعات بأسرها، مسببة الهلاك والانهيار. ومن أبرز أسباب هذا التأثير هو العامل الغيبي المتمثل في عذاب الله سبحانه وتعالى.

العامل الأول: العامل الغيبي (العذاب الإلهي)

الله سبحانه وتعالى يعاقب على الذنوب والمعاصي بشتى أنواع العذاب، الذي قد يكون:

روحياً:

الفراق عن الله:

 أعظم العذاب هو حرمان الإنسان من القرب الإلهي. كما ورد في دعاء كميل: "فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربّي، صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك؟". الفراق عن الله هو أقسى أنواع العذاب، لأنه يعزل الإنسان عن مصدر الطمأنينة والراحة الروحية.

النفس والجوارح:

الفتور العبادي:

نتيجة الذنوب، يصبح الإنسان ثقيلاً في أداء العبادات، فيصلي بلا خشوع ويقرأ القرآن بلا تأثر.

قسوة القلب والجفاف الروحي:

الذنوب تجعل القلب قاسياً، بحيث لا يتأثر بالموعظة أو الصلاة. كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): "وما جفت الدموع إلا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب". القلب القاسي يؤدي إلى حالة من الجفاف الروحي، حيث تصبح العبادات خالية من المعنى والخشوع.

 

أنواع العذاب الغيبي

عذاب الله قد يظهر بأشكال متعددة، منها:

العذاب الداخلي:

انعدام السلام الداخلي، حيث يشعر الإنسان بعدم الرضا والسعادة في حياته.

العذاب في النفس:

الفتور، الجفاف الروحي، وانعدام التأثير بالعبادات.

العذاب في المال والأولاد:

فقدان البركة في المال.

مشاكل أسرية وصراعات داخلية في الأسرة.

ابتلاء الأبناء بسلوكيات منحرفة أو تحديات صعبة.

العذاب في المكانة الاجتماعية:

فقدان المنصب أو الجاه.

انهيار السمعة أو المكانة الاجتماعية بسبب الظلم أو الذنوب.

 

العامل الثاني: العامل المادي

لا تزال الذنوب والمعاصي تمثل أحد العوامل الكبرى التي تؤدي إلى انهيار وهلاك المجتمعات والحضارات. فالذنوب ليست فقط معاصي روحية بل تتجلى أيضًا في نتائج مادية ملموسة تترك أثرها المدمر على الأفراد والمجتمعات. وفي هذا السياق، نلقي الضوء على العامل المادي الذي يشكله تأثير الذنوب في حياة الأمم.

 

العامل المادي: تعامل خاطئ مع الحياة

تعريف الذنوب في السياق المادي

الذنوب هي تعامل خاطئ مع الأشياء، الأشخاص، أو القضايا المحيطة بالإنسان.

الظلم هو مثال واضح للذنب المادي، سواء كان ظلمًا اقتصاديًّا، اجتماعيًّا، أو استغلاليًّا.

 

أمثلة من القرآن الكريم

الله سبحانه وتعالى يقول: "كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَكُمْ". (الأنعام: 6). هذه الأمم التي أُهلكت، على الرغم من تمكينها في الأرض، دُمرت بسبب تعاملها الخاطئ وظلمها.

 

نتائج التعامل الخاطئ

النتائج المدمرة تتناسب مع حجم الظلم والجور الذي يسود المجتمعات.

الأمثلة القرآنية، مثل خسف الأرض بقوم لوط أو إهلاك قوم عاد وثمود، توضح أن التعامل الخاطئ يقود إلى عواقب وخيمة.

 

السنن الإلهية والطبيعية معادلة لا تُخطئ

الذنوب والمعاصي تمثل اختلالاً في التعامل مع سنن الله في الكون، مما يؤدي إلى نتائج كارثية. الله سبحانه وتعالى وضع قوانين تحكم الحياة الاجتماعية، والابتعاد عنها يؤدي إلى انهيار المجتمعات.

 

تشبيه الغدة السرطانية

المجتمعات الغارقة في الذنوب تشبه الغدة السرطانية في جسم الإنسان. إذا لم تُجتث هذه الغدة، فإنها تؤدي إلى هلاك كامل للجسم.

 

الأمثلة الواقعية

الألعاب الإلكترونية المدمرة مثل ألعاب السرقة والعنف، التي تُغرس في عقول الأطفال والشباب، تُنمِّي لديهم سلوكيات خاطئة تؤدي إلى انتشار العنف والجريمة.

 

آثار الذنوب المادية في المجتمعات

الظلم والجور

الظلم الاجتماعي والاقتصادي يؤدي إلى فشل المجتمعات.

سوء توزيع الثروات، العنصرية، واستغلال الطبقات الضعيفة كلها مظاهر مدمرة.

الحروب والصراعات

كثير من الحروب سببها الطمع والجشع، وهي نتيجة مباشرة لغياب القيم الإلهية.

الفقر والبطالة

انتشار الذنوب مثل السرقة والفساد يساهم في تفشي الفقر والبطالة، مما يدمر النسيج الاجتماعي.

الهلاك والاستئصال

المجتمعات التي تغرق في الذنوب تصبح مستحقة لعذاب الله، كما حصل مع قوم فرعون وقوم لوط.

 

رسالة قرآنية وتحذير إلهي

الله سبحانه وتعالى يُنذر الأمم بأن الذنوب والمعاصي تؤدي إلى انهيارها، ويحث على الالتزام بالعدل والقيم الإلهية. كما قال تعالى: "وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا". (الكهف: 59).

إذًا الله سبحانه وتعالى في آياته الكريمة يبين سننه في هلاك الأمم والمجتمعات نتيجة الذنوب والمعاصي. هذه السنن تمثل قوانين إلهية واجتماعية ثابتة لا تتغير، وهي تنطبق على الأفراد والمجتمعات على حد سواء.

أو يمكن أن تؤدي هذه الذنوب إلى اختلال بناء المجتمع، واستبدال بذرة فاسدة ببذرة صالحة. فإذا سيطر الإيمان والقيم الإيمانية، وسيطرت المبادئ والتعاليم الإلهية والإنسانية، حينها يتحقق الخلاص. ويأتي العذاب على أولئك الذين هم بعيدون كل البعد عن الله.

هل هذا الكلام مني؟ لا.

 هل هو منك؟ لا.

 إنها السنن التاريخية التي بينها الله في القرآن الكريم. قال الله سبحانه وتعالى: "إن الأرض يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين". (سورة الأعراف، الآية 128).

إذاً، الله سبحانه وتعالى يبدل حال المجتمعات. أحياناً يمحو الفساد تماماً، وأحياناً يبدلهم ببذرة إيمانية صالحة، فتكون هناك فرصة للنهوض. ولكن، يتحقق ذلك فقط إذا التزم المجتمع بالتعاليم الأساسية التي ذكرناها لحياة المجتمعات، وهي:

التوحيد الإلهي: الالتزام بمعناه العام والخاص.

العدل: نبذ الظلم وتحقيق العدل على مستوى الفرد، الأسرة، المجتمع، وغير ذلك.

الأمر بالمعروف: الدعوة إلى الفضيلة والقيم الإيجابية.

النهي عن المنكر: التصدي للفساد والمعاصي.

هذه المبادئ الأربعة هي أسس حياة المجتمعات. وما عداها يتفرع عنها، وقد تحدثنا عنها بالتفصيل سابقاً، فارجعوا إليها إن أردتم المزيد من التوضيح.

إذا التزم كل فرد بنفسه وأسرته، وأقامت الأسرة التوحيد والعدل، والتزمت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكاتف الجميع في هذا الأمر، ألا يكون ذلك حياة؟ بالطبع يكون حياة. هذه الحياة هي التي تنقذ المجتمع.

حين تضمحل الذنوب والمعاصي، وتبدأ الغدة السرطانية التي تمثل الفساد والظلم بالاختفاء تدريجياً، يحل محلها التوحيد والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يؤدي إلى صلاح الفرد والأسرة والمجتمع.

 

رواية عن آثار الذنوب

نورد هنا رواية عن الإمام زين العابدين عليه السلام، وردت في معاني الأخبار، وهي تمثل خريطة دقيقة لآثار الذنوب. سنورد النص كاملاً كما هو، مع إضافة التعليقات لتوضيح المعاني: عن القطان، عن زكريا، عن ابن حبيب، عن أبي خالد الكابلي، قال: سمعت علي بن الحسين عليه السلام يقول: الذنوب التي تغيّر النعم. "الذنوب التي تغيّر النعم: البغي على الناس، والزوال عن عادة الخير واصطناع المعروف، وكفران النعم وترك الشكر".

"البغي على الناس": الظلم والتعدي على حقوق الآخرين هو سبب لتغيير النعم، سواء كانت نعماً مادية أو معنوية.

"الزوال عن عادة الخير واصطناع المعروف": عندما يترك الإنسان الخير الذي كان يفعله، مثل الصدقة أو مساعدة الآخرين، فهذا يؤدي إلى زوال النعم.

"كفران النعم وترك الشكر": شكر النعم هو سبيل زيادتها، كما قال تعالى: "لئن شكرتم لأزيدنكم." أما كفران النعم فهو سبب زوالها.

الذنوب التي تورث الندم

"قتل النفس التي حرم الله، وترك صلة القرابة حتى يستغنوا، وترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وترك الوصية وردّ المظالم ومنع الزكاة".

"قتل النفس التي حرم الله": قتل النفس بغير حق يورث الندم في الدنيا والآخرة. كما في قصة قابيل وهابيل: "فأصبح من النادمين".

"ترك صلة القرابة حتى يستغنوا": قطع صلة الأرحام من أكبر الذنوب التي تورث الندم، فهي سبب للفرقة والضعف.

"ترك الصلاة حتى يخرج وقتها": تعمد تأخير الصلاة حتى خروج وقتها دليل على الاستخفاف بالواجبات. إذا كنت تعلم أنك ستنام وتفوت صلاة الصبح بسبب السهر، فإن السهر يصبح حراماً.

"ترك الوصية وردّ المظالم ومنع الزكاة": الامتناع عن أداء الحقوق المالية والمعنوية يُعدّ ذنباً عظيماً.

الذنوب التي تنزل النقم

"عصيان العارف بالبغي، والتطاول على الناس، والاستهزاء بهم، والسخرية منهم".

"عصيان العارف بالبغي": من يعلم أنه يرتكب خطأ، ويصر عليه، فإنه يعرض نفسه لعقوبة أشد.

"التطاول على الناس والاستهزاء بهم": التكبر والسخرية من الآخرين، مهما كانت مكانتهم أو جنسيتهم، يعبر عن قلة التقوى وسوء الأخلاق.

الذنوب التي تهتك العصم

"شرب الخمر، واللعب بالقمار، وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو والمزاح، وذكر عيوب الناس، ومجالسة أهل الريب". "شرب الخمر واللعب بالقمار": هذان الذنبان يفسدان العقل ويجران إلى المزيد من الذنوب. "تعاطي اللغو والمزاح": المزاح الذي يجرح الآخرين أو ينشر الفوضى يهتك العصم. "ذكر عيوب الناس": الانشغال بعيوب الآخرين بدلاً من إصلاح النفس، كما ورد: "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس".

الذنوب التي تنزل البلاء

"ترك إغاثة الملهوف، وترك معاونة المظلوم، وتضييع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". "ترك إغاثة الملهوف ومعاونة المظلوم": الامتناع عن نصرة المحتاجين والمظلومين هو سبب رئيسي لنزول البلاء. كما ورد عن الإمام السجاد في الصحيفة السجادية: "اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره".

الذنوب التي ترد الدعاء

"سوء النية، وخبث السريرة، والنفاق مع الإخوان، وترك التصديق بالإجابة، وتأخير الصلوات المفروضة حتى يذهب وقتها". "سوء النية وخبث السريرة": النية أساس العمل، فإذا فسدت النية، فسد العمل. "تأخير الصلوات المفروضة حتىيتذهب وقتها": من أكبر أسباب عدم استجابة الدعاء، لأن الصلاة أساس العلاقة مع الله.

الذنوب التي تحبس غيث السماء

"جور الحكام في القضاء، وشهادة الزور، وكتمان الشهادة، ومنع الزكاة والقرض، وقساوة القلب على أهل الفقر والفاقة". "جور الحكام في القضاء": ظلم القضاة والحكام يؤدي إلى فساد الأرض ومنع البركة. "كتمان الشهادة": الامتناع عن قول الحق يُفسد المجتمعات.

هذه الرواية تُظهر كيف تؤثر الذنوب على الفرد والمجتمع، وأنها ليست مجرد أخطاء فردية، بل لها انعكاسات واسعة تؤدي إلى انهيار المجتمعات بأكملها.

هذه بعض الأمور التي تحتوي على آثار عظيمة، وقد ذكرت الرواية لكي أذكّر نفسي وأذكّركم بها. هذه الرواية تمثل الأساس لفهم أسباب الانهيار. إذا كنت تريد الصلاح، فهذا يعني أنك بحاجة إلى العمل بعكس تلك الأمور المذكورة في الرواية، لكي تصلح نفسك، وتصلح أسرتك، وتصلح مجتمعك، وتصلح أمتك.

 

هنا تتضح المسؤولية العظيمة ودور التثقيف والوعي. هذا الأمر بالغ الأهمية:

ثقِّف نفسك.

ثقِّف أسرتك.

ثقِّف مجتمعك بقدر الإمكان.

وذلك من خلال:

حضور المساجد.

حضور الحسينيات.

المشاركة في الندوات.

التسجيل في المعاهد.

هذه الأماكن تمثل ميادين يمكن أن تنمّي فيها الجانب الفكري، العقدي، الأخلاقي، والتثقيفي، وغيرها من الجوانب التي تسهم في بناء الفرد والمجتمع.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعصمنا وإياكم بعصمته، وأن يبعدنا عن الذنوب والمعاصي والآثام، وأن يجعلنا من المطيعين له في كل صغيرة وكبيرة.

 

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد. اللهم عجِّل الفرج والنصر والعافية، واقضِ حوائجنا وحوائجهم فوق رغباتنا يا كريم، وامنن علينا برضاك، وهب لنا رأفتك ورحمتك ودعاءك وخيرك، ما ننال به سعة من رحمتك وفوزًا عندك يا كريم.

اللهم فرِّج به عنا وعن جميع المؤمنين والمؤمنات، وانصر به جميع المؤمنين والمؤمنات في مشارق الأرض ومغاربها. اللهم انصرهم نصرًا عزيزًا، اللهم أيِّدهم بتأييدك، وانصرهم بنصرك، وأعزهم بعزك، واحفظهم بحفظك، واحرسهم بحراستك يا كريم، وأرنا قدرتك يا إلهي في الظالمين، وفي كل من أراد السوء بشريعة سيد المرسلين وبالمؤمنين والمسلمين أينما كانوا، يا رب العالمين.

اللهم اشفِ كل مريض، اللهم اقضِ حوائج المحتاجين، لا سيما الحاضرين: رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا. اللهم ومن أوصانا بالدعاء، اقضِ حوائجهم، وسهِّل مطالبهم، واغفر ذنوبهم، واستر عيوبهم. اجعل كسبنا وكسبهم من الحلال، وارزقنا وإياهم الرزق الطيب المبارك.

 اللهم اشفِ مرضانا ومرضاهم، وارحم موتانا وموتاهم، يا رب العالمين. برحمتك يا أرحم الراحمين، لا تخرجنا من هذه الدنيا حتى ترضى عنا. برحمتك يا أرحم الراحمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد