علمٌ وفكر

أنواع معرفة العالَم (1)


الشهيد مرتضى مطهري

إنّ الناس من حيث نظرتهم إلى العالَم، مختلفون. فثمّة أفراد لم يرتفعوا عن مستوى الحيوانات، فليست لديهم وجهة نظر عن العالَم، فهم، كما يقول القرآن، لم ﴿يَنظُرُو﴾ إلى العالَم، ولم﴿يَتَفَكَّرُو﴾ فيه. أمّا الذين لديهم بعض وجهة نظر، فهم يختلفون من حيث النظرة. وتكون هذه الاختلافات على نوعين: نوع ينطوي تحت اختلاف المنظور إلى العالَم، ونوع لا ينطوي تحت هذا الاختلاف، وذلك لأنّ بعض الاختلافات (كمِّي) وبعضها (كيفيّ).
والاختلاف الكمّي يعني أنّ فرداً يعرف موجودات أكثر، وآخر أقل. فهذا يعرف مثلاً، الكائنات غير الحيّة فقط، وغيره يعرف الكائنات الحيّة وغير الحيّة. هذا يعرف أحوال النّجوم، أو خواص الأشياء الفيزياوية والكيمياوية أكثر، وغيره يعرفها أقل. إنّ هذه الاختلافات لا تأثير لها في ما يدعى (وجهة نظر). أي لا يُمكن القول بأنّ الشخص الذي اجتاز مرحلة أعلى في علم من العلوم يحمل (وجهة نظر) أفضل وأكمل من ذاك الذي ما زال في مرحلة أدنى من ذلك العلم نفسه. لأنّ هذا النوع من المعرفة بالعالَم - وإن ارتبط بـ(الإدراك) في مقابل (الإحساس) - لا علاقة له بنظرة الإنسان إلى العالَم، أي بتحليل عالَم الوجود وتفسيره اللذين هما أساس عمل الإنسان.

فالقول بأنّ عدد النجوم يبلغ كذا ألفاً، أو مليوناً أو بليوناً، أو القول بأنّ عدد العناصر أربعة أو مائة لا يُغيّر شيئاً من نظرة المرء الكلّية إلى العالَم، وإنْ غيَّر معرفته بجزء منه. وهذا يُشبه قولنا بأنّ معلوماتنا عن شخص ما إن كان في الأربعين أو في الستّين، وإن كانت له خمسة أصابع أو ستة في كفّه وقدميه، أو إنْ كان كثير النوم أو قليله، أو إنْ كانت فصيلة دمه (O) أو (B)، أو إنْ كان ضغطه معتدلاً أو مرتفعاً أو منخفضاً. لا يُمكن أن تُغيّر شيئاً من نظرتنا إلى هذا الشخص وانطباعاتنا عنه بالمرّة.
أمّا الاختلاف الكيفيّ، الذي صحّ أن نُسمّيه اختلاف الماهية، فيتعلّق بهيئة العالَم الكلّية. أي إنّ اختلاف شخصين في معرفتهما للعالَم لا علاقة له بالكمّ، كأن يعرف أحدهما من ظواهر العالَم أكثر ممّا يعرفه الآخر، بل إنّ علاقته بالكيف والماهية أقرب. أي إنّ منظور العالم والوجود في نظر شخص يختلف عمّا هو في نظر شخص آخر. فمثلاً هذا يرى العالم مجموعة أجزاء متناثرة غير مترابطة، وآخر يراه كالآلة التي تترابط كل أجزائها فيما بينها، وثالث يراه كائناً حياً تتصل أجزاؤه اتصالاً عضوياً بعضها مع بعض، هذا يرى حوادث العالَم سلسلة من المصادفات، ويراها الآخر ناشئة عن نظام العلّة والمعلول. هذا يرى نظام العالَم حكيماً، والآخر يراه عبثاً فارغاً. هذا يراه نظاماً ثابتاً، ويراه غيره نظاماً متحرّكاً جارياً. هذا يراه على وتيرة واحدة، والآخر يراه متكاملاً. هذا يراه ناقصاً معيباً، ويراه الآخر خير نظام وأتقنه، وليس في الإمكان أبدع ممّا كان، وغيره يرى إمكان وجود نظام أحسن. يراه أحدهم خيراً محضاً، ويعتبره الآخر شرّاً محضاً، وثالث يراه مزيجاً من الاثنين. هذا يرى العالَم حيّاً وشاعراً، ويراه الآخر ميتاً لا يشعر. هذا يراه متناهياً، وهذا يراه غير متناهٍ. هذا يرى للعالَم أبعاداً ثلاثة، ويرى فيه الآخر أبعاداً أربعة. هذه وأمثالها هي الأمور التي تُبدّل منظورنا إلى العالَم، وهي وأمثالها التي تؤلّف أركان نظرتنا إلى العالَم والوجود.
كذلك الأمر بخصوص معرفتنا شخصاً ما: هل هو محبّ للخير أم أنّه معقّد حسود؟ هل هو ذكي يُدرك النكتة أم أنّه أحمق أبله؟ ما هي نظرته إلى العالَم والحياة؟ ما هو أسلوبه وطريقته؟ إنّ أمثال هذه الأسئلة التي ترتبط (بشخصيّته) لا بشخصه هي التي تؤثّر في نوع نظرتنا إليه. أي كونه محبّاً للخير وذكياً وحاذقاً، يرسم له صورة معيّنة في نظرنا، ويكون مردود هذا في استجابتنا له مختلفاً عمّا لو تلقّيناه في صورة المعقّد الحقود أو الأحمق الأبله، بخلاف معرفة ضغط دمه أو صنفه أو إن كان قلبه في الجهة اليسرى المألوفة من صدره أم أنّه في الجهة اليمنى بصورة شاذة، أم أنّ له قلباً واحداً أو قلبين، فذلك كلّه لا تأثير له في صورة شخصيّته في نظرتنا، ولا في انعكاسات أفعالنا تجاهه.
هذه هي طريقة العلم فبمعرفة العلل والمعلولات والأسباب والمسبّبات، فبالاختبار العملي يكتشف العلّة أو الأثر، ومن ثم يسعى للوصول إلى علّة تلك العلّة أو معلولها.
وبما أنّ العلم يستند إلى التجربة العملية، فإنّ له مميّزاته ونواقصه. إنّ أهمّ مميّزات المعرفة العلمية كونها دقيقة وواضحة تتناول الأجزاء. إنّ العلم، بدراسته وفرضيّاته وتجاربه واختباراته قادر على إعطاء الإنسان آلاف المعلومات عن أصغر ظاهرة من الظواهر الطبيعية. إنّه من ورقة نبات صغيرة يصنع كرّاسة من المعرفة. ثم إنّه باكتشافه القوانين المتحكِّمة في أيّ كائن، يكشف للإنسان طرق الهيمنة والتسلّط على ذلك الكائن، ويكون بهذا قد أعلى دعائم الصناعة والتكنولوجيا.

ولكن العلم، على الرغم من أنّه دقيق، وواضح، ويمنح الإنسان القدرة والقوّة فإنّ دائرته ضيّقة، ولا يتجاوز حدود موضوعه الخاص. فهو يتقدّم في مجال معرفة العلل والأسباب، أو المعلولات والآثار، ثم يصل إلى حيث يقول (لا أدري). والسبب واضح. فنحن نُريد، مثلاً أن نعرف الحادث (أ) بالطريق العلمي فنبحث عن علّته، أو معلوله، أو ما يربطه بمحيطه، أو تاريخه والتحوّلات التي طرأت عليه ونعرفها، ثم نفتّش عن علّة العلّة ومعلول المعلول، وعن محيط أوسع وتاريخ أبعد، ولنفرض أنّنا قد بلغنا بكلّ ذلك، بالبحث والافتراض والاختبار، إلى مرحلة وضع القوانين العلمية، ولكنّنا مع ذلك سنواجه في نهاية المطاف سلسلة لا نهاية لها من العلل والمعلولات اللامتناهية وعبر الزمان اللامتناهي في حجم بحار من المجهولات، تتجسّد كلّها أمامنا. إنّ المعرفة العلمية أشبه بالكاشف القوي في ليلة ظلماء، يُضيء دائرة محدودة إضاءة جيّدة، بحيث إنّنا نعثر على إبرتنا الضائعة في تلك الدائرة من الضوء الساطع. إلّا أنّ ما يُضاء أمامنا لا يتعدّى تلك الدائرة المحدودة، وكلّما تقدّمنا وأضأنا الظلمات المتتالية، وجدنا أمامنا فضاء من المجهول المظلم الذي لا ينتهي.
إنّ العالَم، في المنظور العلمي، مثل كتاب قديم سقط أوّله وآخره، فلا أوّل له معروف ولا آخر له معروف، ولا يعرف مؤلِّفه، ولا يُدرى هدفه والغرض منه. فالمنظور العلمي للعالَم منظور جزئي، لا كلّي، وبديهي ألا تُحيط النظرة الجزئية إلى العالَم بالمنظور الكلّي للعالَم.
وبما أنّ المنظور العلمي منظور جزئي، لا كلّي، فإنّه غير قادر على توضيح ملامح العالَم كلّها. أمّا محاولة معرفة ملامح العالَم ككل استناداً إلى القياس على الجزء فتُذكِّرنا بالمحاولة الشعبية للتعرّف إلى الفيل حيث كانوا يتلمّسونه في الظلام الدامس، محاولين تصوّر ماهيّته وشكله ممّا تلمسه أيديهم من جسمه. فالذي لمست يده أذن الفيل قال إنّ الفيل يُشبه المروحة، والذي لمس رجله قال إنّه يشبه العمود، والذي لمس خرطومه قال إنّه أشبه بالميزاب، والذي بلغت يده ظهره قال إنّه أشبه بسرير النوم.

إنّ الإنسان بحاجة إلى معرفة أكثر من المعرفة التي يمنحها العلم، بالمعنى الدقيق للعلم. من ذلك الإجابة على أسئلة مثل: من أين جاء العالَم وإلى أين يذهب؟ ما وضعنا نحن من العالَم؟ هل تُسيّر العالم قوانين ثابتة لا تتغيّر؟ هل الموجود مآله العدم، والمعدوم ممكن الوجود؟ (بالمفهوم الفلسفي للوجود والعدم). وهل يُمكن إعادة المعدوم إلى الوجود، أم أنّ ذلك مستحيل؟ هل السيادة حقّاً للوحدة أم للكثرة؟ هل ينقسم العالَم إلى ماديّ وغير ماديّ؟ هل يسير العالَم على هدى أم أنّه أعمى ولا هدف له؟ هل علاقة العالم بالإنسان علاقة أخذ وعطاء، يجزى الإحسان بالإحسان والإساءة بالإساءة، أم أنّ ذلك لا يعنيه في شيء؟ هل الحياة الآخرة بعد هذه فانية أم خالدة؟ وأمثال هذه المسائل ممّا سبق أن ذكرنا بعضاً آخر منها، وهي مسائل ليست لها ماهية علمية، أي إنّ العلم لا يملك جواباً عنها بل يصل إلى حيث يقول (لا أعلم). مع أنّ هذه المسائل هي التي تمنح العالَم قيافته وملامحه.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد