إيمان شمس الدين
ولكن ما هي أدوات المعرفة التي من خلالها نكشف المعارف الكاشفة عن الواقع؟
انقسم العلماء أو الباحثون المعنيون في موضوع المعرفة إلى عدة مدارس بناء على انقسام أدوات المعرفة التي اعتمدوها كأداة رئيسية لكشف الواقع:
أولًا: العقل
حيث اعتمدوا هنا على العقل البرهاني كأداة رئيسية، تعمل سائر المناهج المعرفية تحت إشرافه وتستمد مشروعيتها منه، وأطلق عليهم "العقليون".
ثانيًا: التجربة
وهنا يعتبر الحس والتجربة الأداة الوحيدة في كشف الواقع معرفيًّا، ونفي أي قيمة معرفية لأي معرفة خارج حريم التجربة، وأطلق عليهم "التجريبيون".
الثالثة: الإخبار
وهم من اعتمد النص الديني منفردًا كأداة معرفية مهيمنة في المعرفة وكشف الواقع، لذلك أطلق عليهم الإخباريون.
الرابعة: الإشراق
وهنا كان الاعتماد على المكاشفات القلبية في معرفة حقائق الأشياء، لذلك أطلق عليهم "الإشراقيون". (6)
فالأدوات إذًا نعني بها الطرق والقنوات المعرفية التي يمكن أن يعتمد عليها الإنسان في كشف الواقع المحيط به. (7)
وبذلك تكون أدوات المعرفة هي :
1. الحس
2. التجربة
3. العقل
4. الوحي
5. الإشراق
إن اختلاف أدوات المعرفة والاعتماد على بعضها دون غيرها، يؤدي إلى اختلاف الرؤى الكونية وبالتالي اختلاف سلوك المدارس، والمنظومات المعرفية التي تشكل له منظومته الفكرية والحقوقية والقيمية والمعيارية، كون هذه الأدوات تلعب دورًا هامًّا في الكشف عن الواقع، فاعتماد إحداها دون غيرها كما ذكرنا، له أثر في بناء الرؤية الكونية، وبتعددها تتعدد الرؤى الفلسفية للوجود، وبالتالي على عقيدته وأفكاره وسلوكه ومصيره في الدنيا وما بعدها.
مصادر (أدوات) المعرفة وتداخل المناهج:
التداخل في تطبيق المناهج واستخدام أدوات المعرفة في العلوم والتداخل في أخذ النتائج بين العلوم أحدث فوضى معرفية، فمنهج دراسة العقائد على سبيل المثال وبالتالي نتائجه، يختلف عن منهج دراسة العلوم الطبيعية ونتائجها، قد يكون هناك تداخل في البين لكن هذا لا يعني أبدًا تطابقًا في المناهج والنتائج.
فالعقل في فهم العقائد ومدعومًا بالنص الديني هو الطريق الأداتي والمصدري في تشكيل منظومة الإنسان العقدية، فيكون العقل هو المهيمن والذي يعطي شرعية المعارف التي تكشف عن الواقع، بينما المنهج في العلوم الطبيعية قائم على الحس والتجربة والملاحظة ومن ثم تسجيل النتائج، وغالبًا نتائجها تكون غير قطعية، أو قطعية أحيانًا، لكنها تعتمد الحس والتجربة أي الملاحظة المتكررة ومن ثم الاستنتاج، بالتالي لا مدخلية للنص الديني هنا فيها.
فمنهج دراسة العقيدة يعتمد في مصادره المعرفية الأساسية على النص القطعي الصدور والعقل، وهما أساسان لجميع من يؤمن بالنص، أما الوجدان والتجربة الروحية فهما خاصان بكل شخص، ومنهج الدراسات الطبيعية يعتمد على الحس والتجربة والعقل.
وبالنسبة لمصدرية النص المعرفية، فمن الإنصاف العلمي ومن باب عدم إقصاء مصدر للحقيقة، يفترض أن لا يتم إبعاده كمصدر معرفي.
كما لا يجوز استبعاد أي مصدر وأداة للمعرفة يمكنها كشف الواقع، لكن نحتاج أن لا نقع في فخ تداخل الأدوات والمناهج، بمعنى استخدام أدوات ومصادر للمعرفة في علوم وبحوث تتطلب مصادر وأدوات مغايرة، بحيث يصبح هناك خلط بين الأدوات وتطبيقاتها المعرفية، وهو ما يؤدي لنتائج لا تكشف عن الواقع ولا تعطينا قيمة معرفية إيجابية، وهذا لايعني إقصاء لأداة معرفية في الككشف عن الواقع، بل يعني معرفة الأدوات الأساسية الخاصة في هذا البحث والتي تشكل الأدوات المهيمنة والمشرعنة للمخرجات المعرفية، والأدوات الفرعية التابعة لها.
قد يقول البعض هناك تعدد في النصوص المعتبرة بين الأديان والمذاهب، لكن أصل الفكرة هو اعتبار النص مصدرًا معرفيًّا، وكل دين ومذهب لديه أدواته في التنقيب العلمي عن وثاقة الصدور.
شريطة اتباع مبدأ كشف الواقع وليس تثبيت ما أعتقده واقعًا. وهناك اليوم أدوات حديثة للتنقيب عن النص، يمكن إضافتها لما هو موجود من أدوات ومناهج للتنقيب والحفر بشكل أعمق في النص ودلالاته ووثاقة صدوره من قبل المختص، والأساس هو اعتباره مصدرًا معرفيًّا وعدم إقصاء أي مصدر معرفي يفيد كشف الواقع.
فمثلًا عقيدة التوحيد في إثبات وجود الخالق كشفها في الأساس يعتمد على العقل والنص، وقد يعضد هذا الكشف مناهج البحث العلمي في الطبيعيات التي تعتمد الحس والتجربة كالاستقراء المنطقي، فتجتمع هنا كل المصادر المعرفية التي تعضد ما أثبته النص والعقل، فالأصل هنا معرفي للعقل والنص كمهيمن معرفي ومرشد وكاشف، بل ومشرعن لما ينتج من معرفة وليس للحس والتجربة. المعرفة هنا حتمية في أصلها وتشكيكية في عمقها، بمعنى إثبات وجود الخالق يصبح حتميًّا في نتيجته، ولكن التعرف على هذا الخالق هو تشكيكي (ذو مراتب مختلفة) يعتمد على قابلية الباحث المعرفية وعمقها، وهنا يصبح الوجدان والتجربة الروحية مصادر معرفة مشتركة لكن كاشفيتها ليست عامة بل فردية، وعمقها ونتائجها تختلف من شخص إلى آخر لاختلاف القابليات المعرفية.
وحتى في المعتقدات قد يخطئ العقل أو يكون هناك قصور في الإدراك، ومن يحافظ على بقاء العقل في طريق علمي رصين هو النص. فالنص يشكل السياج الحامي من انحراف العقل، وتداخل الميول والرغبات والأهواء في فهم الحقيقة.
بينما عندما أقوم بعمل تجربة علمية للكشف عن قانون علمي في الطبيعيات، فاعتمادي سيكون على الحس والتجربة والعقل الذي ينتزع النتيجة، والتي تعتمد على: التجربة، الملاحظة، ومن ثم تسجيل النتيجة، التي قد لا تكون حتمية ونهائية، ومع تراكم الخبرات والاكتشافات قد تتغير هذه النتيجة إما بتطويرها أو باكتشاف خطأ في الكشف أو التطبيق، أو قصور في إدراك العقل نتيجة خطأ في الحواس.
بالتالي العلوم التجريبية ليست دائمًا حتمية في نتائجها، وقد أثبت الواقع العلمي خطأ بعض النتائج العلمية نتيجة عدم معصومية حواس الإنسان وعقله، أو نتيجة خطأ في خطوات التجربة، كما أثبت صحة بعض النتائج وتطويرها خاصة أداتيًّا، بينما الاعتقادات غالبًا حتمية في نتائجها ذات مراتب مشككة في عمقها وتفاصيلها، شريطة اعتماد منهج صحيح ومنطقي في الأدوات الكشفية للواقع، وعدم سقوط العقل في وحل الصناديق المغلقة مذهبيًّا ودينيًّا، ومع بعدنا عن عصر التشريع يمكن اعتماد الاستقراء المنطقي كوسيلة مساندة تعضد النتائج، ولكنها ليست وسيلة أصيلة بل مساندة، حيث ذكرت سابقًا بأن التجربة يمكنها أن تعتبر وسيلة مساندة في ذلك والتجربة تعتمد على الاستقراء.
وقد يقول البعض إن النص له بعض الإضاءات المعرفية مصدريًّا في العلوم التجريبية، نعم قد يكون هناك إضاءات نصية دينية في العلوم الطبيعية، لكنها مجرد إضاءات عامة مرشدة للعقل، إلا أنها ليست منهجًا أساسيًّا في علوم الطبيعيات، بل هي قد تشكل إضاءة مساندة للتجربة والحس والعقل، فالمنهج الأصيل في الطبيعيات يعتمد على الحس والتجربة وقدرة العقل في انتزاع النتيجة.
فكما أن في العقيدة المنهج الأصيل معرفيًّا يعتمد على العقل والنص، ويعضده ويسانده أحيانًا التجربة والحس، كذلك في الطبيعيات المنهج الأصيل معرفيًّا يعتمد منهجيًّا على الحس والتجربة وقدرة العقل الانتزاعية للنتيجة، وقد يعضده أحيانًا كمساند إضاءات بعض النصوص الإرشادية.
ــــــــ
6 المصدر السابق ص ١٩
7 المصدر السابق ص٥١
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
النّسخة الألمانيّة من كتاب الجشي (ألواح الطّين في كهف نيتشه)
الشّيخ صالح آل إبراهيم: الاحتياجات الزّوجيّة
إشارة وتواصل.. بالأنامل
الشيخ عبد الجليل البن سعد: الحياة عدو وصديق
الشيخ عبد الجليل البن سعد: حبّ الله ورسوله
الشيخ عبد الجليل بن سعد: الدور المنسي في التعاون
فلسفة العمل ومبدأ التنمية المتواصلة
كيف يسمح الدّماغ بشعورين متناقضين؟
المعروف والمنكر والأكثريّة الصّامتة
الإسلام ونظريّة الأخلاق