علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

مراتب الوجود في مصطلح الفلسفة الإسلاميّة

يسمّي العرفاء وفلاسفة الحكمة المتعالية أنواع التحقّق المحاكي (بحسب تعبيري الشخصي) بمراتب الوجود، وسأوضح لكم ذلك بمثال تقريبي لنعود فنطبّق الفكرة، فإذا أخذنا زيداً من الناس مثالًا، فيمكن أن نفترض له أربعة وجودات، نبدأ بالعالي منها وننتهي بالداني، وهي:

 

الوجود الأول: هو الوجود الحقيقي، أي هو وجود زيد في الخارج، وهذا هو الوجود الأصل الذي تحاكيه سائر الوجودات، كما سيظهر.

 

الوجود الثاني: الصورة الذهنية التي أملكها أنا عن زيد في عقلي، وطبعاً ليس المقصود بالصورة الذهنية بالضرورة العنصر الخيالي، بل المعلومة التي أملكها، وهي أنّ هناك شخصاً اسمه زيد موجودٌ في الخارج وله مواصفات كذا وكذا، وهذه يسمّونها بالوجود الذهني، ولنلاحظ هنا كيف يعبّرون، فهم يقولون: زيدٌ له وجود خارجي، وله وجود ذهني.

 

الوجود الثالث: الوجود اللفظي، وهو كلمة زيد التي ننطق بها وما تحكيه عن زيد باللسان، فهنا زيد صارت له ثلاثة وجودات: الحقيقي والذهني واللفظي.

 

الوجود الرابع: الوجود الكتبي، فكلمة زيد التي أكتبها الآن، ولا أنطق بها في لساني، هي موجودة في عالم الكتابة، وهذا هو الوجود الكتبي لزيد.

 

إذن، فقد صارت لزيد أربعة وجودات: خارجي، وذهني، ولفظي، وكتبي، بصرف النظر عن النقاش في هذا المثال من حيث مجازية الوجودين الأخيرين كما قيل؛ لأنّنا أخذناه بوصفه مثالًا فقط، وعليه فهكذا يعبّر كثيرٌ من المشتغلين بالفلسفة. لكنّ العرفاء وأتباع الحكمة المتعالية إذا أرادوا أن يعبّروا عن نفس الفكرة رأينا لهم أسلوباً آخر، فهم يقولون مثلًا: إنّ لزيد أربع مراتب وجودية، فأعلى هذه المراتب وأوسعها وأكملها هي الوجود الحقيقي له، ثم الوجود الذهني، ثم.. وهكذا.

 

إنّ التعبير عن هذه المفاهيم الأربعة بأنّها مراتب للوجود جاء - في حقيقة الأمر - من نظرية التجلّي؛ لأنّ العرفاء، وبالأخص بعد الشيخ ابن عربي (638 ه -)، يرون أنّه لا يوجد شيء في الواقع والتحقّق والعالم العيني سوى الله، ولا شيء غيره في هذا العالم، وهذا هو ما أنتج في تقديري القول بأصالة الوجود التي ظهرت بقوّة - بوجهها الفلسفي - مع الملا صدرا الشيرازي (1050 ه -).

 

حسناً فإذا كان هناك في الخارج شيءٌ واحد هو الوجود (أصالة الوجود)، فكيف نرى بأعيننا أشياء كثيرة، مثل الشجر والحجر وزيد وعمرو، مع أنّكم تقولون: ليس للماهيات تحقّق وأصالة، وإنّما التحقّق هو للوجود وحده، والوجود شيء واحد؟ هنا يخرج العرفاء بنظريّة التجلّي التي صيغت فلسفياً بعد ذلك تحت عنوان (التشكيك الخاصّي للوجود)، ومعنى ذلك أنّ هذا الوجود ظهر في عالم التحقّق وبرز - ما شئت فعبّر - وكان تحقّقه الكامل في الذات الإلهية، التي هي الوجود المحض كما يسمّيها الفلاسفة، والهوية المطلقة كما يسمّيها العرفاء، ثم بدأ بالتجلّي، لكن كلّما نزل في التجلّي ظهرت أشياء تبدو لنا مختلفة!! لماذا؟! لأنّ الحجر الذي تضعه للبناء يظهر على شكل حجر، لكن عندما تضع فوقه حجراً ثانياً يظهر على شكل تحجير مثل تحجير السطح، ثم لما تضع عشرة أحجار يظهر الحائط. هنا نجد أنّ الحجر الأول يتألّف من عين ما تألّف منه الحجران معاً، والحجران معاً يتألّفان من عين ما تألّف منه الحائط، فالحائط ليس شيئاً غير الحجر، بل هو حجر وزيادة، فهو يختلف عن الحجر الأول بشيء هو من سنخ الحجر الأول؛ لهذا قالوا بنظريّة الوحدة في عين الكثرة، أي أنّ ما يمتاز به الحائط عن الحجر الأول هو بالحجر، فنقطة الاختلاف هي عينها نقطة التوافق.

 

وسأعطي مثالًا مشهوراً للمزيد من التوضيح، خذ الحركة، فإنّك عندما تتحرّك بحركة (أ)، فإنّ هذه الحركة تأخذ وضعاً، ثم لما تضاعف من حركتك، نسألك: ما الذي حصل من فرقٍ بين حركتك الأولى الخفيفة وحركتك الثانية الشديدة؟ وسوف يكون الجواب هو: إنّ المائز بين الحركة الأولى والحركة الثانية هو الحركة؛ لأنّ الذي ميّز الحركة الشديدة عن الحركة الخفيفة هو الحركة؛ فإنّ الحركة الزائدة هي التي كوّنت حركتين: شديدة وخفيفة، فنقطة الاختلاف (الحركة) هي بعينها نقطة الاتفاق، وهي الحركة أيضاً، فقد اختلفت الحركة مع الحركة في الحركة واتفقت معها في الحركة؛ لأنّ كليهما حركة، وهذه هي الكثرة في عين الوحدة والوحدة في عين الكثرة، فضوء الشمس لـمّا ينطلق منها نحونا لا يختلف الواصل إلينا عن الصادر منها إلا بالشدّة والضعف. والشدّة والضعف في الضوء مثل الشدّة والضعف في الحركة.

 

وإذا طبّقنا هذه المفاهيم على الله تعالى يقول لك الفلاسفة الصدرائيّون: إنّ الله لما أطلق تجلّيه وشعاعه في العالم، ظهر بظهورات متعدّدة مثل ضوء الشمس، ومثل أمواج البحر التي هي مظاهر متعدّدة لشيء واحد هو البحر نفسه، وكلّما نزل (وهذا هو قوس النزول) بدأ الظهور يأخذ شكلًا أضعف، إلى أن وصل إلى عالم المادة، فظهر هذا العالم الذي هو الكون. والمطلوب من الإنسان اليوم أن يتحرّر من الظهور الأدون ليعرج إلى الله (وهذا هو قوس الصعود)، والإنسان الكامل عرج - وهو في الدنيا - فعاد إلى أصله (وإليه المصير، إليه راجعون) الذي هو الله، واتحد معه في مقام الفعل لا الذات؛ لأنّ مقام الفعل هو بداية ظهور التجلّي وإلا فمقام الذات هو منطقة الكمون، إذا صحّ التعبير، ولهذا عبّروا عنها بغيب الغيوب.

 

إذن، لو وضعنا نظرية أصالة الوجود، ثم أضفنا إليها نظرية التشكيك، سنفهم بالضبط ماذا يريد العرفاء بالتجلّي، وندرك معنى كلمة مراتب الوجود، ونعرف أنّهم يرون لكلّ شيء في هذا العالم مراتب وجودية، ويرجعونه إلى هذه المراتب.

 

من هنا، يفترض العرفاء وفلاسفة الحكمة المتعالية - إذا جاؤوا إلى القرآن الكريم - أنّ وجوده المادي هنا لابد أنّ له وجوداً فوقيّاً علوياً؛ لأنّ القرآن الكريم صادرٌ من الذات الإلهيّة ومن مقام العلم الذي نتج عنه الكتاب العزيز، وهذا هو مقصود العلامة الطباطبائي، جريّاً على نظريّتي أصالة الوجود وتشكيك الوجود من جهة (وطبعًا هناك الكثير من المقدّمات المطوية التي يصعب بيانها في هذه العجالة، مثل البساطة والتركيب والقضايا المتصلة بالوجود عموماً)، وأساسيات نظرية التجلّي من جهة ثانية.

 

لكن في مقابل هؤلاء يأتي القائلون بأصالة الماهيّة، وهم يقولون بأنّ المتحقّق في الخارج هو الماهيات، أي الشجر والحجر، ونظريّتهم هذه تنسجم مع الذهن العرفي للإنسان العادي؛ لأنّنا نقول بأنّ الشجرة موجودة، والإنسان موجود، فننسب الوجود للماهية، ونجعل الماهية هي المتحقّقة في الخارج، أمّا القائلون بأصالة الوجود فلا يرون أنّ هناك ماهيةً لها تحقّق، وإنما المتحقّق هو الوجود فقط، ونحن ننتزع الشجرية والحجرية والإنسانية من ألوان ظهور الوجود وتجلّيه وتمظهره، ومن الطبيعي هنا أنّ الذهن العرفي لا قيمة له، فنحن لا نتحدّث عن فهم النصوص حتى نجعل العرف حجّةً ومعياراً، وإنّما نتحدّث عن حقائق تكوينية ومنهج فلسفي دقيق، ولهذا قال المحقّق الإصفهاني بأنّ أصالة الماهية أصالة عقلائيّة وأصالة الوجود أصالة عقليّة. هذه خلاصة عن الفكرة وأمّا تقويمها فله مجال آخر.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد