علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد جواد مغنية
عن الكاتب :
الشيخ محمد جواد مغنية، ولد عام 1322ﻫ في قرية طير دبّا، إحدى قرى جبل عامل في لبنان، درس أوّلاً في مسقط رأسه ثمّ غادر إلى النجف الأشرف لإكمال دراسته الحوزوية، وحين عاد إلى وطنه، عُيّن قاضيًا شرعيًّا في بيروت، ثمّ مستشارًا للمحكمة الشرعيّة العليا، فرئيسًا لها بالوكالة. من مؤلّفاته: التفسير الكاشف، فقه الإمام الصادق(ع)، في ظلال نهج البلاغة، الفقه على المذاهب الخمسة، علم أصول الفقه في ثوبه الجديد، الإسلام والعقل، معالم الفلسفة الإسلامية، صفحات لوقت الفراغ، في ظلال الصحيفة السجادية، وسوى ذلك الكثير. تُوفّي في التاسع عشر من المحرّم 1400ﻫ في بيروت، ثمّ نُقل إلى النجف الأشرف، وصلّى على جثمانه المرجع الديني السيّد أبو القاسم الخوئي، ودُفن في حجرة 17 بالصحن الحيدري.

المعرفة

إذا كنت «واقعيًّا» ومن الذين يقولون ومؤمنون بأن للعالم وجودًا مستقلًّا عن الإدراك، فيمكنك أن ترسم المعرفة بأنها صورة الشيء عند العقل كما هو في الواقع، وترسم هذه الصورة في العقل بواسطة آلات البدن، كالسمع والبصر والذوق واللمس والشم، أو بواسطة الفكر والتأمل.

 

وان كنت «مثاليًّا» ومن الذين يرون أن العالم لا وجود له في الخارج، وإنما الموجود هو إدراك الأشياء، لا الأشياء نفسها، فالمعرفة على هذا هي نفس الإدراك لا صورة الشيء الموجود، إذ لا حقيقة للوجود الخارجي أبدًا على هذا الافتراض.

 

أسباب المعرفة وأقسامها

 

تنقسم المعرفة باعتبار أسبابها إلى أربعة أقسام

 

1 - المعرفة بالحس: كتصور الحرارة والنور والطعم والصوت والرائحة.

 

2 - المعرفة بالعقل: كمعرفة الحقائق الحسابية والهندسية.

 

3 - المعرفة بالوحي: كمعرفة وجوب الصوم والصلاة، وما إلى ذلك مما يؤخذ من كتاب سماوي، أو حديث نبوي، ويسمى مصدر هذه المعرفة بدليل السمع والنقل تمييزًا له عن دليل العقل.

 

4 - المعرفة بالقلب: وهي ظاهرة فريدة وغريبة عن أذهاننا لأنها لا تنشأ من الحس والتجربة، ولا من العقل وأقيسته المنطقية، ولا من الوحي والأحاديث النبوية، لا من كتاب ولا أستاذ، لا من شيء سوى إلهام القلب وحدسه وإشراقه، وتنبّئه الصادق. وهذه هي طريقة أهل التصوف، حيث قالوا: العلم علمان: علم الكسب، وعلم الوهب.

 

والأول يأتي من الحس والتجربة والعقل، ويختص بالعلوم الدنيوية، كالعلوم الطبيعية والرياضية؛ والثاني يأتي من الإلهام، والإلقاء في القلب، ولا يحصل هذا الإلقاء إلا للصفوة الخلّص، ويختص بالعلوم الدينية وما يتصل بها، كمعرفة اللّه وصفاته، وحقيقة النبوة والوحي والرسالة، والحياة الآخرة، وصفات الجنة والنار، وأسرار العالم وخلقه من بدايته إلى نهايته، ومعرفة الخير والشر، وحقيقة الإنسان والغاية من وجوده. وهذه الحقائق على ما هي عليه في علم اللّه تعرف بالقلب لا بالعقل، لأمور:

 

1 - إن أقرب الحقائق إلى الإنسان هي نفسه التي بين جنبيه، وهو عاجز عن إدراكها، فكيف يقدر على معرفة الحقائق البعيدة عنه، وعن الطبيعة بكاملها؟!

 

2 - إن نظر العقل يتبع استعداد الناظر، ويختلف باختلاف ظروفه وملابساته. ومن هنا قيل: إن الإنسان عين ما يأكل ويشرب ويلبس، وينظر ويلمس.. وبديهة أن لكل إنسان ظروفًا تباين ظروف سواه، ومتى تناقضت الآراء وتضاربت استحال الاعتماد عليها جميعًا، كما أنه لا يجوز الأخذ بأحدها دون الآخر، لأنه ترجيح بلا مرجح، ولأن احتمال البطلان عارض على الجميع.

 

3 - إن الناظر كثيرًا ما يعتقد بصحة شيء، ويبقى على ذلك أمدًا مديدًا، ثم يتبين له الفساد، فيتبدل رأيه واعتقاده، مع العلم بأن السبب الثاني الذي دعاه للعدول ليس بأقوى من الأول، ولا أقل من الشك، فالاثنان إذن لا يؤخذ بهما «1».

 

ومن هذه الأدلة، وما إليها يتبين معنا أنه لا يمكن الاتكال على شيء من نظر العقل، فيتعين الرجوع إلى القلب.

 

الحس الصائب

 

ولكن الحس الصائب لا يحصل للقلب إلا بعد رحلة طويلة وخطيرة، وهي أن يجاهد الإنسان نفسه، ويروضها على التوجه إلى اللّه وحده، والالتجاء إليه في جميع الأمور، والابتعاد بها عن النقائص والرذائل، حتى تحصل لها طهارة اللسان بالتعبير عن الصدق والعدل، وطهارة الفرج عما حرّم اللّه، وطهارة اليد عن العدوان، وطهارة العين عن النظر بريبة وسوء نية، وطهارة السمع عن الكذب والغيبة، وطهارة العقل عن الجهل والتقليد، وطهارة القلب عن الحسد والحقد، وطهارة الخيال عن الأماني والأفكار السوداء. ومتى تم للإنسان هذه الفضائل ألقى اللّه النور في قلبه، وأصبح صادقًا في حدسه، كأنه الوحي لا يقبل الشك والريب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هذه الأدلة جاءت في كتاب «مصباح الأنس» للقونوي تلميذ الشيخ ابن عربي.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد