علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

علوم الإنسان العمليّة

أنتجت قوة الفكر والإدراك ورابطة التسخير عناية ثالثة عجيبة وهي أن يهيئ الإنسان لنفسه علومًا وإدراكات يعتبرها اعتبارًا للورود في مرحلة التصرف في الأشياء، وفعلية التأثير والفعل في الموجودات الخارجة عنه للانتفاع بذلك في حفظ وجوده وبقائه.

 

وتوضيح ذلك: أنك إذا خليت ذهنك وأقبلت به على الإنسان، هذا الموجود الأرضي الفعال بالفكر والإرادة، واعتبرت نفسك كأنك أول ما تشاهده وتقبل عليه، وجدت الفرد الواحد منه أنه في أفعاله الحيوية يوسط إدراكات وأفكارًا جمة غير محصورة، يكاد يدهش من كثرتها واتساع أطرافها وتشتت جهاتها العقل، وهي علوم كانت العوامل في حصولها واجتماعها وتجزيها وتركبها الحواس الظاهرة والباطنة من الإنسان، أو تصرف القوة الفكرية فيها تصرفًا ابتدائيًّا أو تصرفًا بعد تصرف، وهذا أمر واضح يجده كل إنسان من نفسه ومن غيره لا يحتاج في ذلك إلى أزيد من تنبيه وإيقاظ.

 

ثم إذا كررت النظر في هذه العلوم والإدراكات وجدت شطرًا منها لا يصلح لأن يتوسط بين الإنسان وبين أفعاله الإرادية كمفاهيم الأرض والسماء والماء والهواء والإنسان والفرس ونحو ذلك من التصورات، وكمعاني قولنا: الأربعة زوج، والماء جسم سيال، والتفاح أحد الثمرات، وغير ذلك من التصديقات، وهي علوم وإدراكات تحققت عندنا من الفعل والانفعال الحاصل بين المادة الخارجية وبين حواسنا وأدواتنا الإدراكية، ونظيرها علمنا الحاصل لنا من مشاهدة نفوسنا وحضورها لدينا ما نحكي عنه بلفظ أنا، والكليات الأخر المعقولة، فهذه العلوم والإدراكات لا يوجب حصولها لنا تحقق إرادة ولا صدور فعل، بل إنما تحكي عن الخارج حكاية.

 

وهناك شطر آخر بالعكس من الشطر السابق كقولنا: إن هناك حسنًا وقبحًا وما ينبغي أن يفعل وما يجب أن يترك، والخير يجب رعايته، والعدل حسن، والظلم قبيح ومثل مفاهيم الرئاسة والمرؤوسية، والعبدية والمولوية فهذه سلسلة من الأفكار والإدراكات لا هم لنا إلا أن نشتغل بها ونستعملها ولا يتم فعل من الأفعال الإرادية إلا بتوسيطها والتوسل بها لاقتناء الكمال وحيازة مزايا الحياة.

 

وهي مع ذلك لا تحكي عن أمور خارجية ثابتة في الخارج مستقلة عنا وعن أفهامنا، فهي علوم وإدراكات غير خارجة عن محوطة العمل، ولا حاصلة فينا عن تأثير العوامل الخارجية، بل هي مما هيأناه نحن وألهمناه من قبل إحساسات باطنية حصلت فينا من جهة اقتضاء قوانا الفعالة، وجهازاتنا العاملة للفعل والعمل، فقوانا الغاذية أو المولدة للمثل بنزوعها نحو العمل، ونفورها عمّا لا يلائمها يوجب حدوث صور من الإحساسات: كالحب والبغض، والشوق والميل والرغبة، ثم هذه الصور الإحساسية تبعثنا إلى اعتبار هذه العلوم والإدراكات من معنى الحسن والقبح، وينبغي ولا ينبغي، ويجب  يجوز، إلى غير ذلك، ثم بتوسطها بيننا وبين المادة الخارجية وفعلنا المتعلق بها يتم لنا الأمر، فقد تبيّن أن لنا علومًا وإدراكات لا قيمة لها إلا العمل، وهي المسماة بالعلوم العملية.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد