الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ..
الآيـة
﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ {البقرة/195}
التّفسير
الإنفاق والخلاص من المآزق:
هذه الآية تكمّل ما مرّ من آيات الجهاد فكما أنّ الجهاد بحاجة إلى الرجال المخلصين والمجرّبين كذلك بحاجة إلى المال والثروة أي بحاجة إلى الإستعداد البدني والمعنوي والمعدّات الحربيّة، صحيح أن العامل الحاسم في تقرير مصير الحرب هو الرجال بالدّرجة الأولى، ولكنّ الجندي بحاجة إلى أدوات الحرب (أعمّ من السلاح والأدوات ووسائل النقل والغذاء والوسائل الصحيّة) فإنّه بدونها لا يمكنه أن يفعل شيئاً.
من هنا أوجب الإسلام تأمين وسائل الجهاد مع الأعداء، ومن ذلك ما ورد في الآية أعلاه حيث تأمر بصراحة (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة).
وهذا المعنى يتأكّد خاصّة في عصر نزول هذه الآيات حيث كان المسلمون في شوق شديد إلى الجهاد كما يحدّثنا القرآن عن أولئك الّذين أتوا النبي يطلبون منه السلاح ليشاركوا في ساحة الجهاد وإذ لم يجدوا ذلك عادوا مهمومين محزونين (تولّوا وأعينهم تفيض من الدّمع حزناً ألاّ يجدوا ما ينفقون)(1).
فعبارة (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) بالرّغم من أنّها واردة في ترك الإنفاق في الجهاد الإسلامي، ولكنّ مفهومها واسع يشمل موارد أخرى كثيرة، منها أنّ الإنسان ليس له الحقّ في اتّخاذ الطرق الخطرة للسّفر (سواء من الناحية الأمنيّة أو بسبب العوامل الجويّة أو غير ذلك) دون أن يتّخذ لنفسه الإحتياطات اللاّزمة لذلك، كما لا يجوز له تناول الغذاء الّذي يحتمل قويّاً أن يكون مسموماً وحتّى أن يرد ميدان القتال والجهاد دون تخطيط مدروس، ففي جميع هذه الموارد الإنسان مسؤول عن نفسه في ما لو ألقى بها في الخطر بدون عذر مقبول.
وتصوّر بعض الجهلاء من أنّ كلّ ألوان الجهاد الابتدائي هو إلقاء النفس في التّهلكة وحتّى أنهم أحياناً يعتبرون قيام سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء مصداقًا لهذه الآية، وهذا ناشىء من الجهل المطبق وعدم درك مفهوم الآية الشريفة، لأنّ إلقاء النفس بالتّهلكة يتعلّق بالموارد الّتي لا يكون فيها الهدف أثمن من النفس وإلاّ فلابدّ من التضحية بالنفس حفاظاً على ذلك الهدف المقدّس كما صنع الإمام الحسين وجميع الشهداء في سبيل الله كذلك.
فهل يتصوّر أحد أنّ الشّخص الّذي يرى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطر فيحميه بنفسه ويذبّ عنه معرّضاً نفسه للخطر فداءً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (كما صنع علي (عليه السلام) في حرب أحد أو في ليلة المبيت) فهل يعني هذا إلقاء للنفس بالتّهلكة وأنّه صنع حراماً ؟ وهل يعني ذلك أن يقف موقف المتفرّج حتّى يُقتل رسول الله ويقول أنّ إلقاء النفس في التّهلكة حرام ؟
والحقّ أنّ مفهوم الآية واضح والتمسّك بها في مثل هذه الموارد نوع من الجهل والحِمق.
أجل، إذا لم يكن الهدف مهمّاً ولا يستحق أن يضحّي الإنسان بنفسه في سبيله، أو أنّه يكون مهمّاً ولكن بإمكانه تحقيقه بوسائل وطرق أخرى أفضل، ففي هذه الموارد لا ينبغي إلقاء النفس في الخطر (كموارد التقيّة مثلاً من هذا القبيل).
وفي آخر الآية أمر بالإحسان ويقول (أحسنوا إنّ الله يحبّ المحسنين).
أمّا ما هو المراد بالإحسان هنا ؟ فهناك عدّة احتمالات في كلمات المفسّرين، منها: أنّ المراد هو حسن الظن بالله (فلا تظنّوا أنّ إنفاقكم هذا يؤدي إلى الاختلال في معاشكم)، والآخر هو الاقتصاد والاعتدال في مسألة الإنفاق، واحتمال ثالث هو دمج الإنفاق مع حسن الخلق للمحتاجين بحيث يتزامن مع البشاشة وإظهار المحبّة وتجنّب أي لون من ألوان المنّة والأذى للشخص المحتاج، ولا مانع من أن يكون المراد في مفهوم الآية جميع هذه المعاني الثلاث.
بحـوث
1 - الإنفاق مانع عن انهيار المجتمع:
هناك ارتباط معنوي بين جملة (وأنفقوا في سبيل الله) و(لا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة) بملاحظة أنّ عبارات الآيات القرآنية مترابطة ومتلازمة، والظّاهر أنّ الرّابطة بين هاتين العبارتين هو أنّكم لو لم تنفقوا في سبيل الله وفي مسار الجهاد فقد ألقيتم أنفسكم في التّهلكة.
ويمكن أن يكون الارتباط أكثر من ذلك وهو أن نقول: إنّ هذه الآية بالرّغم من أنّها وردت في ذيل آيات الجهاد، ولكنّها تبيّن حقيقة كليّة واجتماعيّة، وهي أنّ الإنفاق بشكل عام سبب لنزاهة المجتمع من المفاسد المدمّرة، لأنه حينما يترك أفراد المجتمع الإنفاق وتتراكم الثروة في أحد أقطاب المجتمع تنشأ طبقة محرومة بائسة، ولا يلبث أن يحدث انفجار عظيم فيه يحرق الأثرياء وثروتهم ويتّضح من ذلك ارتباط الإنفاق بإبعاد التهلكة.
ومن هنا فالإنفاق يعود بالخير على الأثرياء قبل أن يصيب خيره المحرومين، لأنّ تعديل الثروة يصون الثروة كما قال الإمام علي (عليه السلام) (حصّنوا أموالكم بالزّكاة)(2).
وبتعبير بعض المفسّرين أنّ الامتناع من الإنفاق في سبيل الله يؤدّي إلى موت الرّوح الإنسانيّة في الفرد بسبب البخل، وكذلك يؤدّي إلى موت المجتمع بسبب الضعف الاقتصادي وخاصّةً في النظام الإسلامي المبتني على أساس الإحسان والخير(3).
2 - سوء الاستفادة من مضمون الآية:
تقدّم أنّ بعض أهل الدنيا من طلاّب العافية تمسّكوا في هذه الجملة من هذه الآية (ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة) للفرار من الجهاد في سبيل الله حتّى أنّهم وسموا ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في عاشوراء الّتي كانت سبب نجاة الإسلام وبقائه أمام الأعداء كبني أميّة أنّها مصداق لهذه الآية، وغفلوا عن أنه لو كان الأمر كما يقولون لانسدَّ باب الجهاد تماماً.
وأساساً هناك تباين بين مفهومي التهلكة والشّهادة، فالتّهلكة تعني الموت بدون دليل موجّه، في حين أنّ الشهادة تعني تضحية الفرد في سبيل هدف مقدّس ونيل الحياة الأبديّة الخالدة.
ويجب الالتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ نفس الإنسان ليست أثمن شيء في وجوده، فهناك حقائق أثمن للنفس مثل الإيمان بالله والاعتقاد بالإسلام وحفظ القرآن وأهدافه المقدّسة، بل حفظ حيثيّة وعزّة المجتمع الإسلامي، فهذه أهداف أسمى من التّهلكة، ولم ينهَ عنها الشرع المقدّس إطلاقاً.
3- ما هو المنظور من الإحسان:
المراد من الإحسان عادةً هو الإنفاق وبذل الخير إلى الآخرين ولكن تارةً يأتي بمعنىً أوسع ويشمل بذلك كلّ عمل صالح بل حتّى الدوافع في العلم الصالح أيضاً كما ورد في الحديث النبوي الشريف في تفسير الإحسان (أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك).
ومن البديهي أنّه لو كان إيمان الفرد بحيث كأنّه يرى الله سبحانه تعالى ويعتقد بأنّه حاضرٌ وناظرٌ في كلّ الأحوال فسوف يهتم بالإتيان بالأعمال الصالحة ويتجنّب كلّ ذنب ومعصية.
1- التوبة : 92.
2- نهج البلاغة، الحكمة 146.
3- تفسير في ظلال القرآن، ج 1، ص 276.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان