قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
عن الكاتب :
فيلسوف، مفسر وعالم دين إسلامي و مرجع شيعي، مؤسس مؤسسة الإسراء للبحوث في في مدينة قم الإيرانية

الإرتباط الوثيق بين القرآن والعترة عليهم السلام


الشيخ جوادي آملي ..

وفي هذا البحث سنتناول تفصيل حديث الثقلين الشريف وبيان كيفيّة ودرجة الارتباط بين الثقلين. فقد قال النبيّ الأكرم في حديث الثقلين المتواتر الّذي رواه الفريقان: «إنّي قد تركت فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي[1] أهل بيتي ألا وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».[2]
إنّ القرآن والعترة هما ثمرة النبوّة وعامل استمرار الرسالة الّتي تؤمّن الهداية للبشريّة إلى يوم القيامة، وغياب هٰذين الثَقلين المتّحدين عن المجتمع الإنسانيّ سبب لانفصام سلسلة النبوّة وانقطاع الرسالة وعدم دوامها لأنّه يؤدّي إلى زوال ثمرة رسالة الرسول الأكرم، وحيث لا نبيّ يأتي بعده فيقع محذور إرتفاع النبوّة في عصر من العصور.
إنّ الإعلان عن عدم افتراق الثقلين خبر غيبيّ بحيث يلزم من صدقه وصحّته، بقاء الإمام المعصوم إلى يوم القيامة، وعصمة الإمام، وعلم الإمام بالمعارف والحقائق القرآنيّة، وكذلك احتواء القرآن على الأحكام والمعارف الضروريّة والنافعة للبشر، وكذلك صيانة وحفظ القرآن من آفة التحريف.

وينبغي هنا بيان هذا الأمر وهو معنى عدم افتراق الثقلين، حيث إنّ عدم افتراق الثقلين ليس بمعنى أنّ الإمام يصطحب معه مصحفاً دائماً، بل هو بمعنى عدم الانفصام والانفكاك بين الإمامة والوحي القرآني، فالأئمّة عليهم السلام هم المبيّنون والمفسّرون للقرآن الكريم والشارحون لتفاصيله وكيفيّة تنفيذ كلّياته، والقرآن أيضاً يدعو الناس إلى الرجوع إلى المعصومين ويجعل لسنّتهم القيمة والاعتبار والحجيّة.
ولو لم يكن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله قد أعلن في حديث الثقلين عدم إمكانيّة افتراق الثقلين لكان هناك مجال للتوهّم بأنّ التمسّك بأحدهما كاف لهداية البشريّة؛ لكنّ الجزء الأخير من حديث الثقلين الشريف أعلن عدم صحّة هذا الظنّ الباطل ببيانه أنّ القرآن والعترة حجّتان مستقلّتان، وهما مترابطتان في مجال بيان الدين الكامل أي الدين الصالح للاعتقاد والعمل، وأيّ منهما لا تستغني عن الأخرى.
إذاً فالقرآن الكريم على الرغم من كونه مستقلاًّ في أصل الحجيّة وفي دلالة الظواهر، وتبعيّته للروايات في هذا المجال تستلزم الدور، لكنّه ليس حجّة منحصرة أبداً. والروايات أيضاً على الرغم من كونها حجّة مستقلّة بعد تثبيت أصل حجيّتها بواسطة القرآن (سواء كان في السُنّة القطعيّة أو السُنّة غير القطعيّة) وبعد إحراز عدم مخالفتها للقرآن (بخصوص السُنّة غير القطعيّة)، لكنّها حجّة غير منحصرة، وهاتان الحجّتان المستقلّتان وغير المنحصرتين تنضمّان إلى حجّة مستقلّة ثالثة هي البرهان العقليّ فيكون لدينا ثلاثة مصادر مستقلّة غير منحصرة لمعارف الدين، وبواسطة التدقيق والنظر في كلّ هذه المصادر الثلاثة والجمع بينها يمكن التوصّل إلى معرفة الحكم الإلٰهيّ القطعيّ وشريعة الله سبحانه. إذن مفاد حديث الثقلين الشريف ليس هو أنّ التمسّك بأحد الثقلين (القرآن أو العترة) من دون التمسّك بالآخر يكون سبباً للهداية.
فالاستقلال في الحجيّة لا يعني أنّ الدليل بمفرده ومع غضّ النظر عن باقي الأدلّة يكون كافياً للوصول إلى معرفة حكم الله وأنّه لا يتوقّف على أمر آخر في أيّ مرحلة بحيث يستطيع المولى والعبد أن يحتجّ أحدهما على الآخر به. وما يقال في البحوث الأصوليّة والفقهيّة من أنّ مصادر الأحكام هي الكتاب والسنّة والعقل فهو لا يعني أنّ كلّ واحد منها حجّةٌ مستقلّة بمفرده وغنيّ عن الأدلّة الأخرى، بل معناه أنّ هذه المصادر الثلاثة المستقلّة من حيث أنّها ليست منحصرة فلابدّ من النظر في هذه الأدلّة الثلاثة والجمع فيما بينها لأجل الوصول إلى الحكم الإلٰهيّ، مثلاً إذا قامت ثلاثة أدلّة (أحدها قرآني والآخر روائي والثالث عقلي) على فرع من الفروع الفقهيّة كوجوب العدل وحرمة الظلم، فإنّ هذه الأدلّة الثلاثة، هي بمثابة دلالة ثلاث آيات من القرآن على الحكم المذكور.
انّ الاستناد إلى آيات القرآن والإستدلال بها في العقيدة والعمل لا يصحّ أبداً دون ملاحظة الروايات، لأنّ المقيّدات، والمخصّصات وشواهد الآيات القرآنيّة قد وردت في الروايات وبعد الفحص في الروايات وعدم العثور على أيّ مقيّد أو مخصّص أو شارح للآية المعيّنة، عندها يمكن القول بأنّ هذا هو مفاد الآيات ومقصودها في مجال العقيدة أو العمل.

ومسلك الفقهاء أيضاً على هذا المنوال، فهم لا يستدلّون بآيات القرآن قبل الفحص عن المقيّد والمخصّص في الروايات، لأنّ الاستدلال بالقرآن دون الفحص في الروايات هو من قبيل الاستدلال بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص وهو عمل غير جائز عندهم. فلا يمكن الاستناد إلى العامّ في مضمار الاعتقاد والعمل قبل الفحص عن المخصّص. وفي الاستدلال بالروايات أيضاً (في خصوص السُنّة غير القطعيّة) يجب ابتداءً عرضها على القرآن وتقييمها به، وعند إحراز عدم المخالفة للقرآن تكون ثاني الحجج الدينيّة قد تمَّت وتوفّرت. وعليه فإنّ الحجّة الثانية أي الحديث التامّ والمعتبر إذا دلّ على حكم فكأنّه قد دلّت آية أخرى من القرآن على الحكم الفقهيّ المذكور.
ودلالة العقل على الحكم الفقهيّ المنسجم مع محكمات القرآن يُحقّق أيضاً دليلاً ثالثاً، والإجماع أيضاً يرجع إلى السُنّة وهو كالروايات يجب أن يُعرض على القرآن الكريم فيكون حجّة في حالة إحراز عدم مخالفته للقرآن.
وبهذا البيان اتّضح أنّ الثقلين غير قابلين للافتراق، وأنّ القرآن هو «الثقل الأكبر»، ودلالة الأدلّة المتعدّدة العقليّة والنقليّة على موضوع معيّن هي بمثابة دلالة آيات من القرآن على ذلك الموضوع، وأنّ الأدلّة القرآنيّة، والروائيّة والعقليّة معاً هي بمنزلة دليل موحَّد وحجّة واحدة.
والنتيجة هي أنّ القرآن والعترة ثقلان متّحدان وهما يقدّمان معاً الدين الكامل الصالح للاعتقاد والعمل، فليست الحقيقة أنّ هناك ثقلاً واحداً وليست الحقيقة أنّ هناك ثقلين مفترقين. وعلى أساس حديث الثقلين الشريف فإنّ العترة بدون القرآن ستكون «كالعترة بدون العترة»، وكذلك القرآن بدون العترة سيكون بمثابة «القرآن بدون القرآن». إذاً فالقرآن والعترة هما بمثابة الحجّة الإلٰهيّة الواحدة لأجل تقديم الدين الجامع.


[1] . المقصود من العترة عليهم السلام في حديث الثقلين، هو شخصيّتهم الحقوقيّة، وإلاّ فإنّ شخصيّتهم الحقيقيّة ليست في متناول الكثير من المسلمين. وعليه فالرجوع إلى الإمام يعني الرجوع إلى الإمامة والأحكام والحِكَم الصادرة من ذلك المقام الشريف.
[2] . البحار، ج23، ص106.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد