الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ..
يقول تعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون . فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون . فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبوب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العلمين)[1].
تواصل هذه الآيات توجيه الكلام للضالين والمشركين، ويتخذ القرآن فيها طريقًا آخر لإيقاظهم وذلك بأن ينقلهم إلى القرون السالفة والأزمان الماضية، يشرح لهم حال الأمم الضالة والظالمة والمشركة، ويبين لهم كيف أتيح لها جميع عوامل التربية والتهذيب والوعي، غير أن جمعًا منهم لم يلقوا بالًا إلى أي من تلك العوامل، ولم يعتبروا بما حاق بهم من (بأساء) و(ضراء)[2] ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون. أما كان من الأجدر بهؤلاء أن يستيقظوا عندما جاءهم البأس وأحاطت بهم الشدائد؟! فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا أنهم لم يستيقظوا، ولذلك سببان.
الأول: إنهم لكثرة آثامهم وعنادهم في الشرك زايلت الرحمة قلوبهم والليونة أرواحهم: ولكن قست قلوبهم والثاني: إن الشيطان قد استغل عبادتهم أهواءهم فزين في نظرهم أعمالهم، فكل قبيح ارتكبوه أظهره لهم جميلًا، ولكل خطأ فعلوه جعله في عيونهم صوابًا: وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون. ثم تذكر الآية الثانية أنه لما لم تنفع معهم تلك المصائب والمشاكل والضغوط عاملهم الله تعالى بالعطف والرحمة، ففتح عليهم أبواب أنواع النعم، لعلهم يستيقظون ويلتفتون إلى خالقهم الذي وهب لهم كل تلك النعم، ويشخصوا الطريق السوي: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ. إلا أن هذه النعم كانت في الواقع ذات طابع مزدوج، فهي مظهر من مظاهر المحبة التي تستهدف إيقاظ النائمين، وهي كذلك مقدمة لنزول العذاب الأليم إذا استمرت الغفلة، والذي ينغمس في النعمة والرفاهية، يشتد عليه الأمر حين تؤخذ منه هذه النعم فجأة، بينما لو أخذت منه بالتدريج، فلا يكون وقع ذلك عليه شديدًا، ولهذا يقول إننا أعطيناهم الكثير من النعم حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون[3]. وهكذا استؤصلت جذور أولئك الظلمة وانقطع نسلهم: فقطع دابر القوم الذين ظلموا. و"الدابر" بمعنى المتأخر والتابع. ولما كان الله قد وفر لهؤلاء كل وسائل التربية ولم يبخل عليهم بأي شئ منها، لذلك فإن الحمد يختص بالله الذي يربي أهل الدنيا كافة والحمد لله رب العالمين.
ولابد هنا من التنبه إلى بضع نقاط:
1 - قد يبدو لبعضهم أن هذه الآيات تتعارض مع الآيات السابقة، فقد بينت الآيات السابقة أن المشركين إذا هاجمتهم المصاعب والشدائد يتوجهون إلى الله وينسون كل ما عداه، ولكن هذه الآيات تقول: إن هؤلاء لا يستيقظون حتى بعد تعرضهم للمنغصات الشديدة. هذا التباين الظاهري يزول إذا انتبهنا إلى النقطة التالية، وهي أن اليقظة الخاطفة المؤقتة عند ظهور الشدائد لا تعتبر يقظة حقيقية، لأنهم سرعان ما يعودون إلى الغفلة السابقة. في الآيات السابقة كان الكلام عن التوحيد الفطري، فكان التيقظ والتوجه العابر ونسيان كل شئ سوى الله في تلك اللحظات الحساسة ما يكفي لإثبات ذلك، أما في هذه الآيات فالكلام يدور عن الاهتداء والرجوع عن الضلال إلى الطريق المستقيم، لذلك فإن اليقظة العابرة المؤقتة لا تنفع شيئًا. قد يتصور أن الاختلاف بين الموضعين هو أن الآيات السابقة تشير إلى المشركين الذين عاصروا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والآيات التي بعدها تشير إلى الأقوام السابقين، ولذلك لا تعارض بينهما[4]. ولكن من المستبعد جدًّا أن يكون المشركون المعاندون المعاصرون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيرًا من الضالين السابقين، وعليه فلا حل للإشكال إلا بما قلناه.
2 - نقرأ في هذه الآيات أنه عندما لم يكن لابتلائهم بالشدائد تأثير في توعيتهم، فإن الله يفتح أبواب الخيرات على أمثال هؤلاء الآثمين، فهل هذا ترغيب بعد المعاقبة، أم هو مقدمة لعقاب أليم؟ أي: هل هذه النعم نعم استدراجية، تغمر المتمرد تدريجيا بالرفاهية والتنعم والسرور. . . تغمره بنوع من الغفلة، ثم ينتزع منه كل شئ دفعة واحدة ؟ ثمة قرائن في الآية تؤيد الاحتمال الثاني، ولكن ليس هناك ما يمنع من قبول الاحتمالين، أي أنه ترغيب وتحريض على الاستيقاظ، فإن لم يؤثر، فمقدمة لسلب النعمة ومن ثم إنزال العذاب الأليم. جاء في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج" ثم تلى الآية فلما نسوا. . .[5]. وفي حديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: "يا ابن آدم، إذا رأيت ربك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره"[6]. وفي كتاب (تلخيص الأقوال) عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قال: "إن قنبر مولى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أدخل على الحجاج، فقال: ما الذي كنت تلي من علي بن أبي طالب؟ قال: كنت أوضيه، فقال له: ماذا يقول إذا فرغ من وضوئه؟ فقال: كان يتلو هذه الآية: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين، فقال الحجاج: أظنه كان يتأولها علينا ؟! قال: نعم"[7].
3 - يتضح من هذه الآيات أن هدف الكثير من الحوادث المؤلمة هو الإيقاظ والتوعية، وهذا جانب من فلسفة "المصائب والآفات" التي تحدثنا بشأنها في بحث التوحيد، ولكن الملفت للنظر هو أنه يبدأ الموضوع بكلمة "لعل"، وذلك لأن نزول البلاء وحده لا يكفي للإيقاظ، بل هو تمهيد للقلوب المستعدة (سبق أن قلنا أن "لعل" في كلام الله تستعمل حيثما تكون هناك شروط أخرى). هنالك أيضا كلمة "تضرع" التي تعني أصلاً نزول اللبن في الثدي واستسلامه للرضيع، ثم انتقل المعنى إلى الاستسلام مع الخضوع والتواضع، أي أن تلك الحوادث الشديدة تهدف إلى إنزالهم عن مطية الغرور والتمرد والأنانية، والاستسلام لله.
4 - مما يلفت النظر اختتام الآية بقول: الحمد لله رب العالمين وهذا دليل على أن استئصال جذور الظلم والفساد والقضاء على شأفة الذين يمكن أن يواصلوا هذا الأمر من الأهمية بحيث يستوجب الحمد لله. في حديث ينقله فضيل بن عياض عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: "من أحب بقاء الظالمين فقد أحب أن يعصي الله، إن الله تبارك وتعالى حمد بنفسه بهلاك الظلمة فقال: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
ــــــــ
[1] الأنعام: 42 – 45.
[2] " البأساء " الشدة والمكروه، وتطلق على الحرب أيضا، وكذلك القحط والجفاف والفقر، أما " الضراء " فأكثر ما تعني العذاب الروحي، كالهم والغم والاكتئاب والجهل، أو الآلام الناشئة عن الأمراض أو عن فقدان مال أو مقام. ولعل الاختلاف بين معنيي اللفظتين ناشئ عن أن " البأساء " تشير إلى المكروه الخارجي و "الضراء" تشير إلى المكروه الداخلي، النفسي أو الروحي، وعلى هذا تكون "البأساء" من عوامل إيجاد " الضراء "، فتأمل بدقة!
[3] " الإبلاس " الحزن المعترض من شدة التألم بسبب كثرة المنغصات المؤلمة، ومنها اشتقت كلمة "إبليس"، وهي هنا تدل على شدة الغم والهم اللذين يصيبان المذنبين يومئذ.
[4] يشير الفخر الرازي في تفسيره إلى هذا الاختلاف في ج 12، ص 224.
[5] تفسير مجمع البيان وتفسير نور الثقلين، ذيل الآية.
[6] نهج البلاغة، الكلمة 25.
[7] نور الثقلين، ج 1، ص 718.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان