السيد محمد باقر الحكيم ..
النقطة الرابعة:
الدعوة إلى التسليم والقبول بالرسالة الإسلاميّة وأصولها الإلهية، واحترام النبي الأمي العربي المتمثل برسول الله صلى الله عليه وآله، حيث إن الإسلام يعترف بشكل طبيعي بالرسالات السابقة والأنبياء السابقين، وبالتالي بأقوامهم وأتباعهم الذين آمنوا بهم، وباعتباره صاحب الرسالة الخاتمة فلابد له من تصديق الرسالات السابقة في الوقت الذي يمثل الهيمنة عليه وإكمالها، وتصحيح الانحرافات التي طرأت عليها من خلال التراكم الزمني والتاريخي، والرواسب والمخلفات الاجتماعية والقومية والانحطاط الأخلاقي.
وقد توسل القرآن الكريم إلى هذه الدعوة بأساليب متعددة أيضاً:
أ - إرجاع الإسلام إلى الأصل الإبراهيمي، والتأكيد على موقع إبراهيم (عليه السلام) في الرسالة الإسلاميّة باعتباره أب الأنبياء والإسرائيليين، ومن النبي الذي تلتقي به الرسالات السماوية. ومن هنا جاء التأكيد على أن اسم الإسلام كان من إبراهيم عليه السلام، وأنه كان مسلماً حنيفاً، ولم يكن يهودياً ولا نصرانياً.
(وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس…. ( (٧١).
(يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلاّ من بعده أفلا تعقلون * ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين ( (٧٢).
ب - دعوة أهل الكتاب للاعتراف بالنبي ورسالته من خلال التأكيد على بشارة الأنبياء والكتب السماوية به، حيث تمت الإشارة في القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في عدة موارد:
منها: ما ورد في سورة الأعراف في سياق الأحاديث عن موسى ودعائه الله تعالى: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك (من قول الله تعالى في جوابه: (قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم… - إلى قوله تعالى: - ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ( (٧٣).
ومنها: ما ورد في سورة الصف من قوله تعالى على لسان عيسى بن مريم، بعد الإشارة إلى موقف قوم موسى وقوم عيسى منهما: (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ( (٧٤).
ومنها: ما ورد في سورة البقرة من قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ( (٧٥).
ومنها: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه وقال أأقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ( (٧٦).
ج - مناقشة الأفكار المختلفة والمهمة عند أهل الكتاب، وإرجاعها إلى أصولها الصحيحة، وتذكيرهم بما يخصون من الكتاب، كما هو الحال في فكرة تولد المسيح من غير أب، والتي كانت سبباً لإثارة الاتهام تجاهه عند اليهود، والاعتقاد بأنه تجسيد للإله عند النصارى.
(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ( (٧٧). (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ( (٧٨).
(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير ( (٧٩).
وكذلك فكرة: أن اليهود والنصارى هم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم لا يتعرضون للعذاب والعقاب:
(وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير ( (٨٠).
(قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ( (٨١).
وكذلك: فكرة الفقر والبخل الإلهي التي كان يقول بها اليهود: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ( (٨٢).
(لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق * ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد * الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ( (٨٣).
النقطة الخامسة:
الاعتراف بالوجود الديني والاجتماعي لأصحاب هذه الديانات ضم المجتمع الإسلامي، سواء على مستوى علاقات المواطنة، أو العلاقات الاقتصادية، أو علاقات الأسرة والروابط الاجتماعية، كما تدل على ذلك بعض الآيات الكريمة، ويؤكده التعامل السياسي في الدولة الإسلامية، واتفاقيات المواطنة التي تسمى بـ (الجزية)، وإبقاء وجودهم الديني من المعابد والشعائر الدينية والأحكام في الأحوال الشخصية، وكذلك إبقاء الأراضي المفتوحة عنوة في أيديهم، وفتح الأبواب لهم في مختلف المجالات الاقتصادية والعلمية والثقافية. فمن الآيات التي تناولت هذا الموضوع هي (آية الجزية): (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ( (٨٤).
فإن هذا الاستثناء لا يشمل المشركين ولا غيرهم من الملحدين المرتدين، خصوصاً وأنها جاءت في سياق البراءة من المشركين:
(اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا اتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ( (٨٥).
فإن هذه الآية تشير إلى العلاقات التجارية في قوله تعالى (وطعامكم حل لهم (. وكذلك العلاقات الزوجية، خصوصاً إذا قارناها بالموقف من المشركين في قوله تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر ( (٨٦).
(ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ( (٨٧).
كما يؤكد القرآن الكريم في بعض الآيات على الجانب الروحي والعاطفي الموجود في أوساط بعض أهل الكتاب: كالنصارى كما أشرنا إلى ذلك في آية سورة المائدة، وكما في قوله تعالى: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلاّ ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ( (٨٨).
إن هذه النقاط الخمس التي ذكرناها إن وضعنا بعضها إلى جانب الآخر وجدنا أن القرآن الكريم في الوقت الذي كان يسعى إلى تصحيح انحرافات أهل الكتاب ودعوتهم لدخول الإسلام والالتزام بدين الحق في نفس الوقت كان يسعى أيضاً لإيجاد صف واحد من المؤمنين بالله والوحي والرسالات واليوم الآخر؛ ليكونوا في مواجهة صف الشرك والوثنية والإلحاد، ولولا موقف جهود الجزيرة العربية من ناحية وموقف الطغاة الحاكمين في أوساط النصارى والمجوس لو جدت هذه الدعوة آذاناً صاغية في أوساط أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس والصابئة.
ويؤكد هذا الفهم التعاطف النفسي والروحي الذي كان يشعر به المسلمون تجاه أهل الكتاب، وخصوصاً النصارى منهم، كما تشير إلى ذلك القصة التي تشير إليها الآية في أول سورة الروم: (الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ( (٨٩)، حيث يذكر التاريخ: أن المشركين أظهروا الشماتة، وأثاروا الشبهات حول الإسلام عندما تعرض الروم إلى هزيمة على أيدي الفرس، حيث كانوا يصنفون إلى جانب الوثنيين لعبادتهم النار، بخلاف الروم النصارى.
وكذلك القصة التي تحدثنا عن موقف ملك الحبشة تجاه المسلمين، ورفضه لطلب المشركين تسليم المسلمين إليهم، وبعد ذلك الرعاية الخاصة التي وجدها المسلمون في الحبشة. كما يؤكد ذلك تعايش أهل الكتاب بشكل عام، وخصوصاً النصارى منهم مع المسلمين في مختلف أدوار الدولة الإسلاميّة وأقطارها، بحيث كانت تتم الرعاية لهم والتعايش معهم أحيانا أكثر من رعاية بعض فرق المسلمين المعروفة.
وهذا الفهم يفرض علينا في هذا العصر موقفاً سياسياً وثقافياً واجتماعياً تجاه أهل الكتاب، وخصوصاً النصارى منهم في العالم المسيحي، والكنائس المختلفة المتعددة، وضرورة التمييز بين الموقف الاستعماري أو الصليبي لهذا العالم، والحقيقة.
الدينية والثقافية له، وبالتالي السعي إلى تبين القواسم المشتركة، ومعالم الوحدة الحقيقية، كما صنع القرآن الكريم ذلك في الصدر الأول، فإنه لم يخلط بين المواقف الحاقدة لبعض أهل الكتاب، كذلك الانحرافات العقائدية والأخلاقية والسياسية، والمواقف المتعاطفة والأفكار المشتركة.
ويمكن الانطلاق في ذلك من منطلقين واقعيين في هذا العصر:
الأول: منطلق الإيمان بالله. والقضية الروحية والمعنوية التي تمثل قضية مشتركة.
الثاني: قضية حقوق الإنسان، حيث جاء الإسلام بالكثير من هذه الحقوق، بل تقدم البشرية في مجال طرحها والاهتمام بها وتطويرها، وكانت الرسالة الإسلاميّة دعوة عالمية ذات طابع سياسي إنساني وجهادي لإحقاق هذه الحقوق.
ـــــــــــــــــ
٧١ - الحج: ٧٨.
٧٢ - آل عمران: ٦٥ - ٦٧.
٧٣ - الأعراف: ١٥٦ - ١٥٩.
٧٤ - الصف: ٦.
٧٥ - البقرة: ٨٩.
٧٦ - آل عمران: ٨١.
٧٧ - المائدة: ١٥.
٧٨ - آل عمران: ٥٩.
٧٩ - المائدة: ١٧ - ١٨.
٨٠ - المائدة: ١٧ - ١٨.
٨١ - الجمعة: ٦.
٨٢ - المائدة: ٦٤.
٨٣ - آل عمران: ١٨١ - ١٨٣.
٨٤ - التوبة: ٢٩.
٨٥ - المائدة: ٥.
٨٦ - الممتحنة: ١٠.
٨٧ - البقرة: ٢٢١.
٨٨ - الحديد: ٢٧.
٨٩ - الروم ١ - ٢.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان