الإمام الخميني (قدس سره)
من الحجب المانعة من الاستفادة من هذه الصحيفة النوارنية: الاعتقاد بأنه ليس لأحد حق الاستفادة من القرآن الشريف إلاّ بما كتبه المفسّرون أو فهموه، وقد اشتبه على الناس التفكر والتدبّر في الآيات الشريفة بالتفسير بالرأي الممنوع، وبواسطة هذا الرأي الفاسد والعقيدة الباطلة جعلوا القرآن عارياً من جميع فنون الاستفادة واتخذوه مهجوراً بالكلية في حال أن الاستفادات الأخلاقية والإيمانية والعرفانية لا ربط لها بالتفسير، فكيف بالتفسير بالرأي، فمثلاً إذا استفاد أحد من كيفية مذاكرات موسى (عليه السلام) مع الخضر (عليه السلام) وكيفية معاشرتهما وشدّ موسى (عليه السلام) رحاله إليه مع ما له من عظمة مقام النبوّة لأخذ العلم الذي ليس موجوداً عنده وكيفية عرض حاجته إلى الخضر كما ذكرت في الكريمة الشريفة: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ﴾ (1)، وكيفية جواب الخضر والاعتذارات التي وقعت من موسى عظمة مقام العلم وآداب سلوك المتعلم، مع المعلّم ولعلها تبلغ من الآيات المذكورة إلى عشرين أدباً فأي ربط لهذه الاستفادات بالتفسير فضلاً من أن تكون تفسيراً بالرأي والاستفادة من هذا القبيل في القرآن كثير، ففي المعارف مثلاً إذا استفاد أحد من قوله تعالى:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ (2) الذي حصر جميع المحامد لله، وخصّ جميع الأثنية للحق تعالى التوحيد الأفعالي، وقال بأنه يستفاد من الآية الشريفة أن كل كمال وجمال وكلّ عزّة وجلال الموجودة في العالم وتنسبها العين الحولاء والقلب المحدوب إلى الموجودات من الحق تعالى وليس لموجود من قبل نفسه شيء ولذا المحمدة والثناء خاص بالحق ولا يشاركه فيها أحد، فأيّ ربط لهذا إلى التفسير حتى يسمّى بالتفسير بالرأي أو لا يسمّى؟ إلى غير ذلك من الأمور التي تستفاد من لوازم الكلام ولا ربط لها بوجه إلى التفسير مضافاً إلى أن في التفسير بالرأي أيضاً كلام لعلّه غير مربوط بآيات المعارف والعلوم العقلية التي توافق الموازين البرهانية وبالآيات الأخلاقية التي فيها للعقل دخل، لأن التفاسير التي من هذا القبيل مطابقة للبرهان المتين العقلي أو الاعتبارات العقلية الواضحة، فإذا كان ظاهر الكلام على خلافها فاللازم أن يصرف الكلام من ظاهره، مثلاً في كريمة ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ ﴾ (3) و﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ (4)، التي يكون الفهم العرفي فيها مخالفاً للبرهان ليس تفسيراً بالرأي ولا يكون ممنوعاً بوجه فمن المحتمل بل من المظنون أن التفسير بالرأي راجع إلى آيات الأحكام التي تقصر عنها أيدي الآراء والعقول، ولا بد وأن تؤخذ بصرف التعبّد والانقياد من خزّان الوحي ومهابط ملائكة الله، كما أن أكثر الروايات في هذا الباب وردت في مقابل العلماء... الذين كانوا يريدون أن يفهموا دين الله بعقولهم ومقايساتهم، وما في بعض الروايات الشريفة من أنه ليس شيء أبعد من عقول الرجال في تفسير القرآن، وكذلك الرواية الشريف «إن دين الله لا يصاب بالعقول» تشهد بأن المقصود من دين الله الأحكام التعبدية للدين وإلاّ فباب إثبات الصانع والتوحيد والتقديس وإثبات المعاد والنبوّة بل مطلق المعارف حقّ طلق للعقول، ومن مختصاتها وإن ورد في كلام بعض المحدثين من ذوي المقام العالي أن الاعتماد في إثبات التوحيد على الدليل النقلي، فمن غرائب الأمور بل من المصيبات التي لا بد أن يستعاذ بالله منها، ولا يحتاج هذا الكلام إلى التهجين والتوهين وإلى الله المشتكى.
ومن الحجب المانعة من فهم القرآن الشريف، ومن الاستفادة من معارف هذا الكتاب السماوي ومواعظه حجاب المعاصي والكدورات الحاصلة من الطغيان والعصيان بالنسبة إلى ساحة رب العالمين المقدسة، فتحجب القلب عن إدراك الحقائق.
وليعلم كما أن لكل عمل من الأعمال الصالحة أو السيئة كما أن له صورة في عالم الملكوت (5) تتناسب معه فله صورة أيضاً في ملكوت النفس، فتحصل بواسطتها في ملكوت النفس: أمّا النورانية أن يكون القلب مطهراً ومنوّراً وفي هذه الحالة تكون النفس كالمرآة المصقولة صافية، ويليق للتجليات الغيبية وظهور الحقائق والمعارف فيه، وأما أن يصير ملكوت النفس به ظلمانية وخبيثة، وفي هذه الصورة يكون القلب كالمرآة المزيّنة والمدنّسة لا تنعكس فيها المعارف الإلهية ولا الحقائق الغيبية، وحيث أن القلب في هذه الحالة يقع بالتدريج تحت سلطة الشيطان ويكون المتصرف في مملكة الروح إبليس فيقع السمع والبصر وسائر القوى أيضاً في تصرف ذاك الخبيث، وينسد السمع بالكلية عن المعارف والمواعظ الإلهية، ولا ترى العين الآيات الباهرة الإلهية وتعمى عن الحق وآثاره وآياته ولا يتفقّه القلب في الدين ويحرم من التفكر في الآيات والبيّنات وتذكر الحق والأسماء (6) والصفات (7)، كما قال الحق تعالى: ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ (8). فيكون نظرهم إلى العالم كنظر الأنعام والحيوانات الخالية عن الاعتبار والتدبّر، وقلوبهم كقلوب الحيوانات لا نصيب لها من التفكر والتذكّر، بل تكون حالة الغفلة والاستكبار تزداد فيهم يوماً فيوم من النظر في الآيات واستماع المواعظ، فهم أرذل وأضلّ من الحيوان.
ومن الحجب الغليظة التي هي ستر صفيق (9) بيننا وبين معارف القرآن ومواعظه: حجاب حبّ الدنيا، فيصرف القلب بواسطته تمام همّته في الدنيا وتكون وجهة القلب تماماً إلى الدنيا ويغفل القلب بواسطة هذه المحبة عن ذكر الله، ويعرض عن الذكر والمذكور، وكلما ازدادت العلاقة بالدنيا وأوضاعها ازداد حجاب القلب وساتره ضخامة، وربما تغلب هذه العلاقة على القلب ويتسلّط سلطان حب الجاه والشرف على القلب بحيث يطفيء نور فطرة الله بالكلّية وتغلق أبواب السعادة على الإنسان، ولعل المراد من إقفال القلوب المذكورة في الآية الشريفة: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ (10). هذه الأقفال وأغلال العلائق الدنيوية، ومن أراد أن يستفيد من القرآن ويأخذ نصيبه من المواعظ الإلهية لا بدّ وأن يطهّر القلب من هذه الأرجاس، ويزيل لوث المعاصي القلبية وهي الاشتغال بالغير عن القلب لأنَّ غير المطهر ليس محرماً لهذه الأسرار قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾ (11) . فكما أن غير المطهّر الظاهري ممنوع عن ظاهر هذا الكتاب ومسّه في العالم الظاهر تشريعاً وتكليفاً، كذلك ممنوع من معارفه ومواعظه وباطنه وسرّه من كان قلبه متلوثاً بأرجاس التعلّقات الدنيوية، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ (12) إلى آخر الآية، فغير المتقي بحسب تقوى العامة وغير المؤمن بحسب إيمان العامة محروم من الأنوار الصورية لمواعظه وعقائده الحقة، وغير المتقي وغير المؤمن بحسب سائر مراتب التقوى وهي تقوى الخاص وتقوى خاص الخاص وتقوى أخصّ الخواص محروم من سائر مراتبها، والتفصيل حول تلك المراتب وذكر سائر الآيات الدالة على المقصود موجب للتطويل، ولكن نختتم هذا الفصل بذكر آية شريفة إلهية تفي لأهل اليقضة بشرط التدبّر، قال تبارك وتعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ (13) .
فخصوصيات هذه الآية الشريفة كثيرة والبيان حول نكاتها يستلزم رسالة على حدة ليس الآن مجالها.
____________________________________
(1) - سورة الكهف , الآية : 66.
(2) - سورة الفاتحة, الآية : 1.
(3) - سورة الفجر , الآية : 22.
(4) - سورة طه, الآية : 5.
(5) - عالم الملكوت هذا هو عالم مجرد من المادة والزمان والمكان بشكل مطلق.
(6) - الأسماء: عالم الأسماء هو عالم الحقائق التي تلازم واجب الوجود, فالمقصود من الأسماء ليس هو لفظ العالم والقادر بل المسمى بالعالم والقادر, وأما الألفاظ هذه هي أسماء الأسماء.
(7) - الصفات: المقصود بها عين الذات وليست الأعراض الزائدة على الذات.
(8) - سورة الأعراف , الآية : 179.
(9) - ثوب صفيق: متين.
(10) - سورة محمد ، الآية : 24.
(11) - سورة الواقعة, الآية : 78.
(12) - سورة البقرة ، الآية : 2.
(13) - سورة المائدة, الآية : 16.
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع
أمسية للشّاعرة فاطمة المسكين بعنوان: (تأمّلات في مفهوم الجمال بين الشّعر والفلسفةِ)
العظات والعبر في نملة سليمان