الشيخ عبد الله جوادي آملي
رأي الزمخشري
يعتقد الزمخشري بأن الله –تعالى- يحقر المتحاجين في كلا الموردين ويوبخهم. وهو يفسر قوله تعالى (ها أنتم هؤلاء) على هذا النحو:
«ها أنتم هؤلاء الجهلاء قد حاججتم فيما لكم به علم، وتحدث حوله كتابكم أيضاً، فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم، ولم يَرِدْ في التوراة والإنجيل كلامٌ حوله؟!».
تناسب ظاهر الآية مع بيان الزمخشري
بما أنّ الجملة تبدأ بحرفي تنبيه (ها أنتم هؤلاء)- اللذين وضعا لتحذير الغافل- فهي إذن أنسب للدلالة على التحقير. إضافة لذلك، هناك آية أخرى في القرآن الكريم، استعملت فيها (هاء) التنبيه للتحقير; كما هو الحال في قوله تعالى: ﴿هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾(5); كالذي يعدّ نفسه للامتحان في كتاب لم يطالعه، ولمّا ينجح في الكتاب الذي قرأه. فيقال له هنا: إنك لم تفلح في الخروج مرفوع الرأس من امتحان الكتاب الذي طالعته، فأنّى لك أن تمتحن في كتاب لم تقرأه؟!
ولذا يقال لأهل الكتاب: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم، وتحدّث به كتابكم عن موسى وعيسى ورسول الله -عليهم صلوات الله- وفشلتم، فكيف تحاجّون في شريعة لا اطلاع لكم بها إطلاقا، ولم يَرِدْ لها ذكرٌ في كتابكم.
﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا…﴾(6).
في هذا الجزء من الآية، نلاحظ وجود عدّة جمل سلبية، وجملة واحدة إثباتية; ففي الجزء السلبي منها، تبيّن إبراهيم على أنّه منفصلٌ عن اليهودية والنصرانية، وتنفي ارتباطه (عليه السلام) بهاتيك المجموعتين; لأنّه أولا: مثل هذا الدين الممتزج بالتحريف، ينفر منه حتّى موسى وعيسى (عليهما السلام) وثانياً: مع أنّ الديانتين اليهودية والنصرانية الأصليتين حقّ، إلاّ أنّ إبراهيم الخليل (عليه السلام) لم يعمل بتعاليم دين نزل فيما بعد. أما جملتها الإثباتية فهي: إنّ إبراهيم (عليه السلام) يعدّ مسلماً مستقيماً.
عظمة إبراهيم بين أهل الكتاب
بما أنّ اليهود والنصارى، لم يكن بوسعهم إنكار حقّ إبراهيم الخليل الذي تحدّثت بعظمته الكتب السماوية; مثل صحف إبراهيم والقرآن الكريم، فإن كلا منهما كان ينسب الخليل (عليه السلام) له، ويصفه على أنّه يهودي أو مسيحي.
ولكن القرآن الكريم يشطب على جميع هذه الأوهام بخطّ البطلان، وينفي انتسابه (عليه السلام) لليهود والنصارى ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
ادّعاء اليهود والنصارى بالأنبياء الإبراهيميين ورأي القرآن بذلك
ناهيك عن ادّعاء اليهود والنصارى بانتساب إبراهيم إليهم، فإنهم ذهبوا إلى القول بانتساب بقيّة الأنبياء الإبراهيميين إليهم، وقالوا: إنهم يهودٌ أو نصارى، ولذلك فإنّ القرآن الكريم، بيّن وجهة نظره ببقية الأنبياء الإبراهيميين على هذا الأساس: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ…﴾(7).
بحث لغوي
«الحنيف»; يعني المائل إلى الوسط، والمستقيم الذي يراد به الميل إلى الحق; فالذي يسير في الشارع مثلًا، ويسعى للابتعاد عن الرصيف والانتقال إلى الوسط، يقال عنه «حنيف»، ويقال كذلك عن الذي رجله مستقيمة ومائلة إلى الوسط بأنه «أحنف»، ولذلك ومن باب «تسمية الشيء باسم ضدّه» يقال عن الذي اعوجّت رجله وانحرفت: بأنه «أحنف»; كما يقال عن الأعمى (بصير).
حنيفية المشركين
إنّ القرآن الكريم، ومن أجل الفصل بين الحنيفيّة بمعناها الآنف الذكر، والحنيفية المتداولة بين المشركين، فقد قيّدها بكلمة «مسلماً»; لأنهم كانوا يؤدّون مناسك الحجّ والزيارة، مع كونهم مشركين، ولهذا السبب فقد كانوا يسمونهم حنفاء(8). ولذا ينفي القرآن صفة الشرك الموجودة عند اليهودية والنصرانية عنه (عليه السلام) في نهاية الآية من باب التأكيد. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
إبراهيم (عليه السلام) مسلم
بعد أن سلب القرآن الكريم اليهودية والنصرانية عن إبراهيم الخليل، فقد قال عنه: إنه مسلم (ولكن حنيفاً مسلماً).
معنى الإسلام
تطلق كلمة الإسلام أحياناً بمعناها الشائع والمتعارف عليه -الذي يشمل الأصول والفروع وما جاء به خاتم الأنبياء- وأحياناً يراد بكلمة الإسلام الخطوط العامة والأصول الأساسية، ويذكر بهذا المعنى في المصطلح القرآني، وإن بعض الآيات وردت بلحاظ هذا المعنى، مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾(9).
المراد بكون إبراهيم (عليه السلام) مسلماً
أما كون المسلمين يعدّون إبراهيم الخليل (عليه السلام) مسلماً، وينسبونه لهم في مناظراتهم، فإنّ السبب في ذلك يعود أولا: إلى أنهم يستظهرون سيرته (عليه السلام) من كتابهم السماوي. ويعود ثانياً: إلى أن مرادهم من كلمة الإسلام هو أنه (عليه السلام) منسجم ومتطابقٌ مع الدين الإسلامي في الخطوط الأصلية والأصول الأساسية، وإن كان (عليه السلام) متطابقاً مع الخطوط العامّة للتوراة والإنجيل أيضاً، ولكن بما أن ذينك الكتابين ابتليا بالتحريف وبقي القرآن مصوناً منه، لذا يمكننا أن نقول: إنّه (عليه السلام) وبقية الأنبياء الإبراهيميين يتوافقون مع أصول القرآن ودين المسلمين.
﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾(10).
ارتباط ثلاثة مجاميع بسيدنا إبراهيم:
بعد أن نفت الآية الكريمة في الجزء السابق، ارتباط سيدنا إبراهيم باليهود والنصارى، ونفت كذلك انتساب وارتباط تلك المجموعتين به، فقد قدّمت ثلاثة مجاميع على أنّهم ورثته وأتباعه:
1- المؤمنون به من الذين عاصروه واتّبعوه ونصروه (لَلّذين اتّبعوه).
2- خاتم الأنبياء (وهذا النبيّ).
3- المؤمنون بخاتم الأنبياء (والذين آمنوا).
البحث الأدبي والتفسيري الصحيح
قرأ البعض (هذا النبيّ) على النصب، وفسروه بهذا المعنى «أن أولى الناس بإبراهيم، لَلّذين اتبعوه وأتباع خاتم الأنبياء». إلاّ أنّه ناهيك عن عدم تناسب هذه القراءة مع ظاهر الآية، فإن عبارة (والذين آمنوا) ستلغى أيضاً. وبناءً على ذلك، فإنّ قراءة الرفع هي الأرجح.
القرآن واحترام خاتم الأنبياء
بما أنّ القرآن الكريم ينظر باحترام خاص للسيد الخاتم (صلى الله عليه وآله)، ويرى أنّه أعظم من أن يكون تابعاً لأحد، لذا فإنه عندما يذكر الأنبياء الإبراهيميين، يخاطبه بالقول: (فبهداهم اقتده)(11). إلاّ أنّه يخاطبهم ويخاطب المسلمين أيضاً للاقتداء بملّة إبراهيم (عليه السلام): ﴿…مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ…﴾(12).
نوح (عليه السلام) من أول الدعاة إلى التوحيد
يعدّ نوح (عليه السلام) أول نبيّ صاحب كتاب وشريعة، وحصل على لقب شيخ الأنبياء. لذا عدّه القرآن الكريم من أول الدعاة إلى التوحيد، ويسلِّم عليه بكل عظمة وإجلال، ويقول: ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾(13)، حيث لم يَرِد مثل هذا التعبير بحق باقي الأنبياء، كما في قوله تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ﴾(14)، ﴿ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾(15).
ــــــــــــــــــ
5– محمد : 38 .
6– آل عمران : 67 .
7– البقرة : 140 .
8– ورد في مكان آخر أنه لو لم يكن قيد «مسلماً» موجوداً، فإن الموضوع كان واضحاً أيضاً، وإنما جاء القيد لغرض التوضيح ليس الاّ.
9– تطرقنا إلى شرحه بالتفصيل آخر الآية.
10– آل عمران : 68 .
11– الأنعام : 90 .
12– الحج : 78 .
13– الصافات : 79 .
14– الصافات : 120 .
15– الصافات : 109 .
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان