السيّد محمّد حسين الطباطبائي
قوله تعالى: ﴿.. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا..﴾ الإكمال والإتمام متقاربا المعنى. قال الراغب: «كمالُ الشيء حصولُ ما هو الغرضُ منه».
وقال: «تمام الشيء انتهاؤه إلى حدّ لا يحتاج إلى شيء خارجٍ عنه، والناقص ما يحتاج إلى شيء خارج عنه».
ولكَ أن تحصل على تشخيص معنى اللفظَين من طريق آخر، وهو: أنّ آثار الأشياء التي لها آثار على ضربين:
فضرْبٌ منها ما يترتّب على الشيء عند وجود جميع أجزائه - إن كان له أجزاء - بحيث لو فقد شيئاً من أجزائه أو شرائطه لم يترتّب عليه ذلك الأمر، كالصوم، فإنّه يَفسد إذا أخلّ بالإمساك في بعض النهار، ويسمّى كون الشيء على هذا الوصف بالتمام، قال تعالى: ﴿..ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ..﴾ البقرة:187.
وضربٌ آخر: الأثر الذي يترتّب على الشيء من غير توقّف على حصول جميع أجزائه، بل أثر المجموع كمجموع آثار الأجزاء، فكلّما وُجد جزءٌ ترتّب عليه من الأثر ما هو بحسبه، ولو وُجد الجميع ترتّب عليه كلّ الأثر المطلوب منه، قال تعالى: ﴿..فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ..﴾ البقرة:196، وقال: ﴿..وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ..﴾ البقرة:185، فإنّ هذا العدد يترتّب الأثرُ على بعضه كما يترتّب على كلّه، ويقال: تمّ لفلان أمره وكمُل عقله، ولا يقال: تمّ عقله وكمُل أمره.
النعمة هي الولاية
ويُنتج ما تقدّم أنّ قوله تعالى: ﴿أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ يُفيد: أنّ المراد بـ«الدّين» هو مجموع المعارف والأحكام المُشرّعة، وقد أضيف إلى عددها اليوم شيءٌ، وأنّ «النعمة» أيّاً ما كانت أمرٌ معنويّ واحد، كأنّه كان ناقصاً غير ذي أثر فتُمّم وترتّب عليه الأثر المتوقّع منه. والنعمة بناءُ نوع، وهي ما يلائم طبع الشيء من غير امتناعه منه، والأشياء وإن كانت بحسب وقوعها في نظام التدبير متّصلةً مرتبطة متلائماً بعضُها مع بعض، وأكثرها أو جميعها نِعَمٌ إذا أُضيفت إلى بعض آخر مفروضٍ كما قال تعالى: ﴿..وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا..﴾ إبراهيم:34، وقال: ﴿..وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً..﴾ لقمان:20؛ إلّا أّنه تعالى وصف بعضها بالشرّ والخسّة واللعب واللهو وأوصاف أُخَر غيرِ ممدوحة كما قال: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ آل عمران:178، وقال: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ..﴾ العنكبوت:64، وقال: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ*مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ آل عمران:196-197، إلى غير ذلك.
والآيات تدلّ على أنّ هذه الأشياء المعدودة نِعماً إنّما تكون نعمةً إذا وافقت الغرض الإلهيّ من خِلقتها لأجل الإنسان، فإنّها إنّما خُلقت لتكونَ إمداداً إلهياً للإنسان، يتصرّف فيها في سبيل سعادته الحقيقية، وهي القربُ منه سبحانه بالعبودية والخضوع للربوبية، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات:56. فكلّ ما تصرّف فيه الإنسان للسلوك به إلى حضرة القرب من الله وابتغاء مرضاته فهو نعمة، وإن انعكس الأمر عاد نِقمة في حقّه، فالأشياء في نفسها عُزَّلٌ، وإنّما هي نعمة لاشتمالها على روح العبودية، ودخولها من حيث التصرّف المذكور تحت ولاية الله التي هي تدبير الربوبية لشؤون العبد، ولازمه أنّ النعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهية، وأنّ الشيء إنّما يصير نعمة إذا كان مشتملاً على شيء منها، قال تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ..﴾ البقرة:257.
وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ محمد:11.
وقال في حقّ رسوله: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ النساء:65، إلى غير ذلك.
تمام الولاية بنصب وليّ الأمر
فالإسلام -وهو مجموع ما نزل من عند الله سبحانه لِيعبُدَه به عبادُه- «دين»، وهو من جهة اشتماله -من حيث العمل به- على ولاية الله وولاية رسوله وأولياء الأمر بعده «نعمة»، ولا تتمّ ولاية الله سبحانه -أي تدبيره بالدين لأمور عباده- إلّا بولاية رسوله، ولا ولاية رسوله إلّا بولاية أولي الأمر من بعده، وهي تدبيرُهم لأمور الأمّة الدينية بإذنٍ من الله، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ..﴾ النساء:59.
فمحصّل معنى الآية: اليوم -وهو اليوم الذي يئس فيه الذين كفروا من دينكم - أكملتُ لكم مجموعَ المعارف الدينية التي أنزلتُها إليكم بفرض الولاية، وأتممتُ عليكم نعمتي، وهي الولاية التي هي إدارة أمور الدين وتدبيرها تدبيراً إلهياً، فإنّها كانت إلى اليوم ولاية الله ورسوله، وهي إنّما تكفي ما دام الوحي ينزِل، ولا تكفي لما بعد ذلك من زمان انقطاع الوحي، ولا رسول بين الناس يحمي دينَ الله ويذبّ عنه، بل من الواجب أن يُنْصَبَ من يقوم بذلك، وهو وليّ الأمر بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، القيّم على أمور الدين والأمّة.
فالولاية مشروعة واحدة، كانت ناقصة غير تامّة، حتّى تمّت بنَصب وليّ الأمر بعد النبيّ. وإذا كمُل الدين في تشريعه، وتمّت نعمة الولاية فقد رضيتُ لكم -من حيث الدين- الإسلام، الذي هو دين التوحيد، الذي لا يُعبَدُ فيه إلّا الله ولا يطاع فيه -والطاعة عبادة- إلّا الله ومَن أمَر بطاعته، من رسولٍ أو وليّ.
فالآية تُنبئ عن أنّ المؤمنين اليومَ في أمْنٍ بعد خوفهم، وأنّ الله رضيَ لهم أن يدينوا بالإسلام الذي هو دين التوحيد، فعليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً بطاعة غير الله أو مَن أمر بطاعته. وإذا تدبّرتَ قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ النور:55، ثمّ طبّقتَ فِقرات الآية على فِقرات قوله تعالى: ﴿..الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ..﴾، وجدتَ آية سورة المائدة من مصاديق إنجاز الوعد الذي تشتمل عليه آيةُ سورة النور، على أن يكون قوله: ﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ مَسوقاً سَوق الغاية كما ربما يُشعر به قوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. وسورة النور قبل المائدة نزولاً كما يدلّ عليه اشتمالها على قصّة الإفك، وآية الحدّ، وآية الحجاب، وغير ذلك.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع