قرآنيات

صاحب الحوت


الشيخ محمد جواد مغنية

قال تعالى:
فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ومَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ( 98 ) ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( 99 ) وما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ويَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100 ) يونس

اللغة:
الخزي الذل . والحين مدة من الزمن، والمراد به هنا العمر الطبيعي للإنسان
والرجس الشيء القذر، والمراد به هنا الكفر

الإعراب:
لولا بمعنى هلا، وتستعمل على وجهين: الأول الطلب مثل لولا تأتينا
الثاني التوبيخ مثل لولا امتنعت عن ضلالك. وقرية على حذف مضاف أي أهل قرية . وقوم يونس منصوب على الاستثناء المنقطع أي لكن قوم يونس، ويونس ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة.

القصة
صاحب الحوت هو النبي يونس الذي ضاق صدره من قومه فتركهم مغاضبًا،  وقد أوصى سبحانه نبيه الكريم محمدًا (ص) بالصبر على أذى قومه، وأن لا يعجل عليهم كما فعل يونس الذي التقمه الحوت، فنادى وهو في بطنه : « لا إِلهً إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ » - 87  الأنبياء
( لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وهُوَ مَذْمُومٌ ) . دعا يونس ربه، وهو في بطن الحوت، فاستجاب دعاءه رحمة به، ونبذه الحوت من بطنه في الفضاء، وهو غير مذموم ولا ملوم عند اللَّه، ولولا دعاؤه ورحمة اللَّه لكان مذمومًا وملومًا، بل ولبقي في بطن الحوت إلى يوم يبعثون. وتجدر الإشارة إلى أن الذم هنا على ترك الأفضل لا على الذنب لمكان العصمة ( فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) . من نعم اللَّه على يونس أنه تعالى أخرجه من بطن الحوت، وهو راض عنه، ورده إلى قومه نبيًّا كما كان من قبل، فانتفعوا به وبمواعظه، ولو بقي في بطن الحوت إلى يوم يبعثون لم يكن لنبوته أي أثر، وقوله تعالى: فجعله من الصالحين معناه أن اللَّه سبحانه يحشره غدًا مع النبيين وفي زمرتهم.

وصف اللَّه سبحانه يونس بأنه من المرسلين والصالحين، وبصاحب الحوت، وبذي النون أي الحوت، وأيضًا وصفه بالمغاضب لقومه، لأنه دعاهم إلى الإيمان فلم يستجيبوا له، فدعا اللَّه عليهم، ورحل عنهم يائسًا من إيمانهم . . وفي سورة القلم أمر اللَّه نبيه محمدًا ( ص ) أن يصبر ولا يتعجل بالدعاء على قومه بالعذاب كما فعل يونس : « فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ولا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وهُوَ مَكْظُومٌ - 48 القلم » .
أما قوم يونس فقد زاد عددهم على مائة ألف : « وأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ - 147 الصافات » . وقال الرواة والمفسرون : إن قوم يونس كانوا يقيمون بنينوى من أرض الموصل، وإنهم كانوا يعبدون الأصنام، فنهاهم يونس عن الكفر، وأمرهم بالتوحيد، فأصروا على الشرك شأنهم في ذلك شأن من تقدمهم من أقوام الأنبياء .
وبعد أن رحل يونس عن قومه أتتهم نذر العذاب، وطلائع الهلاك من السماء فتابوا إلى اللَّه، ودعوه مخلصين أن يكشف عنهم العذاب، ففعل، وأبقاهم إلى انقضاء آجالهم، وهذا هو معنى قوله تعالى: ( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ومَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) .
وقال المفسرون: إن قوم يونس لبسوا المسوح، وخرجوا إلى الصحراء، ومعهم النساء والأطفال والدواب، وفرقوا بين كل والدة وولدها إنسانًا وحيوانًا، فحن بعضها إلى بعض، وعلت أصواتها، واختلطت أصوات الآدميين بأصوات الحيوانات، فرفع اللَّه عنهم العذاب، ورجعوا إلى ديارهم آمنين .

أما يونس فقد ضرب في الأرض، حتى انتهى إلى ساحل البحر، فوجد جماعة في سفينة، فسألهم أن يصحبوه، ففعلوا، ولما توسطوا البحر بعث اللَّه عليهم حوتًا عظيمًا حبس عليهم سفينتهم، فأيقنوا أنه يطلب واحدًا منهم، فاتفقوا على الاقتراع، فوقع السهم على يونس، فألقوه أو ألقى هو نفسه في البحر، فابتلعه الحوت، كما جاء في سورة الصافات: وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق - أي هرب - إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين - أي المغلوبين بالقرعة - فالتقمه الحوت وهو مليم، أي وهو يلوم نفسه .
وألهم اللَّه الحوت أن يطوي يونس في بطنه، دون أن يمسه بأذى، وفزع يونس إلى ربه يناديه ويستجير به، وهو في جوف الحوت ( 1 ) ، والى هذا أشارت الآية 87 من سورة الأنبياء : « فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين » .
ثم نبذه الحوت على ساحل البحر بعد أن لبث في جوفه ما شاء اللَّه أن يلبث.

قال المفسرون : إن يونس خرج من بطن الحوت كالفرخ الممتعط، وإن اللَّه أنبت عليه شجرة من يقطين يستظل بها، وذلك حيث يقول عز من قائل : « فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ - أي في مكان خال من النبات - وهُوَ سَقِيمٌ وأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ - 146 الصافات » .
قالوا، وعاد يونس بعد هذا إلى قومه، ففرحوا بقدومه، وفرح هو بإيمانهم .
( ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ) . أي لو شاء اللَّه أن يكره الناس على الإيمان ويلجئهم إليه إلجاء، أو يخلقهم منذ البداية مؤمنين - لو شاء ذلك لما وجد كافر على ظهرها، ولو فعل لبطل الثواب والعقاب، وكان فعل الإنسان كالثمرة على الشجرة .. وسبق نظير هذه الآية في سورة الأنعام :
« ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى - 35 » . . « ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا - 107 » وفي سورة البقرة : « ولَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ - 253 » . وتكلمنا عن ذلك مفصلًا في ج 1 ص 388 .
( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) الخطاب لمحمد ( ص )، والمعنى لقد شاءت حكمته تعالى أن يكون الخيار في الانقياد إلى الحق، أو عناده بيد الإنسان، ليتميز الخبيث من الطيب، ولا أحد في مقدوره أن يعاند مشيئة اللَّه ..

فعلام - إذن - تحزن وتذهب نفسك على كفرهم وعدم إيمانهم؟ . والقصد من هذا التخفيف عن الرسول الأعظم (ص) . وقد تكرر هذا المعنى في الكثير من الآيات، منها قوله تعالى : « وما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ - 44 ق » أي بمسلط . .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد