السيد محمد حسين الطباطبائي
1) أحكام الأعمال من حيث الجزاء:
إنّ في الأعمال من حيث المجازاة، أي من حيث تأثيرها في السعادة والشقاء، نظاماً يُخالف النظام الموجود بينها من حيث طَبْعها في هذا العالم، فعالَمُ المجازاة ربّما بَدّل الفعلَ من غير نفسه، وربّما نقل الفعلَ وأسنده إلى غير فاعله، وربّما أعطى للفعل غيرَ حكمه، إلى غير ذلك من الآثار المخالفة لنظام هذا العالم الجسمانيّ. وإليك تفصيل القول في ما تقدّم:
* من المعاصي ما يُحبط حسنات الدنيا والآخرة:
- كالارتداد. قال تعالى: ﴿..وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ..﴾. البقرة:217
- وكالكفر بآيات الله والعناد فيها. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ..﴾. آل عمران:21–22
* وكذا من الطاعات ما يكفّر سيّئات الدنيا والآخرة:
- كالإسلام والتوبة. قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾. الزمر:53-54.
* وأيضاً من المعاصي ما يُحبط بعض الحسنات:
- كالمشاقّة مع الرسول. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾. محمد:32-33، فإنّ المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الأمر بالإطاعة في معنى النهي عن المشاقّة، وإبطالُ العمل هو الإحباط.
- وكرفع الصوت فوق صوت النبيّ. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾. الحجرات:2
* وكذا، من الطاعات ما يكفّر بعض السيئات:
- كالصلوات المفروضة. قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾. هود:114
- وكالحجّ. قال تعالى: ﴿..فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ..﴾. البقرة:203
- وكاجتناب الكبائر. قال تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ..﴾. النساء:31
* وأيضاً من المعاصي ما ينقل حسنات فاعلها إلى غيره:
- كالقتل. قال تعالى: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ..﴾. المائدة:29. وقد ورد هذا المعنى في الغِيبة والبهتان وغيرهما في الروايات المأثورة عن النبيّ وأئمّة أهل البيت عليهم السلام.
* وأيضاً من المعاصي ما يَنقل مثل سيئات الغير إلى الإنسان، لا عينها:
- قال تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ..﴾. النحل:25
* وكذا من الطاعات ما يَنقل مثل حسنات الغير إلى الإنسان، لا عينها:
- قال تعالى: ﴿.. وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ..﴾. يس:12.
* وأيضاً، من المعاصي ما يوجب تضاعف العذاب:
- قال تعالى: ﴿..يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ..﴾. الأحزاب:30.
* وكذا من الطاعات ما يوجب الضِّعف:
- كالإنفاق في سبيل الله. قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ..﴾. البقرة:261، ومثله ما في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ..﴾. القصص:54، على أنّ الحسنة مضاعفةٌ عند الله مطلقاً، قال تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا..﴾. الأنعام:160.
* وأيضاً، من الحسنات ما يبدِّل السيّئات إلى الحسنات:
- قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ..﴾. الفرقان:70
* وأيضاً، من الحسنات ما يوجب لُحوقَ مثلِها بالغير:
- قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾. الطور:21،
- ويمكن الحصول على مثلها في السيّئات كظُلم أيتام الناس، حيث يوجب نزول مثله على الأيتام من نسل الظالم، قال تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ..﴾. النساء:9.
2) الأعمال محفوظة مكتوبة متجسّمة، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا..﴾. آل عمران:30
وقال تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾. الإسراء:13
3) الارتباط بين الأعمال وبين الحوادث الخارجية، ونعني بالأعمال الحسنات والسيّئات التي هي عناوين الحركات الخارجية دون الحركات والسّكَنات التي هي آثار الأجسام الطبيعية، فقد قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾. الشورى:30
وقال تعالى: ﴿..إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ..﴾ الرعد:11، والآيات ظاهرة في أنّ بين الأعمال والحوادث ارتباطاً ما، شرّاً أو خيراً.
ويجمع جملة الأمر آيتان من كتاب الله، وهما:
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾. الأعراف:96
وقوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. الروم:41
فالحوادث الكونية تتبع الأعمال بعض التَبَعيّة، فجَرْيُ النوع الإنسانيّ على طاعة الله سبحانه وسلوكه الطريق الذي يرتضيه يستتبع نزولَ الخيرات، وانفتاحَ أبواب البركات، وانحرافُ هذا النوع عن صراط العبودية، وتماديه في الغيّ والضلالة، وفساد النيّات، وشناعة الأعمال، يوجب ظهورَ الفساد في البرّ والبحر، وهلاك الأمم بتفشّي الظلم وارتفاع الأمن وبروز الحروب، وسائر الشرور الراجعة إلى الإنسان وأعماله، وكذا ظهور المصائب والحوادث المبيدة الكونية كالسيل، والزلزلة، والصاعقة، والطوفان، وغير ذلك، وقد عدّ الله سبحانه سيلَ العرم، وطوفان نوح، وصاعقة ثمود، وصرصرَ عادٍ من هذا القبيل.
4) أنّ قَبيل السعادة فائقةٌ على قَبيل الشقاء. [القَبيل هنا بمعنى مفردات السعادة والشقاء أو مصاديقهما] ومن خواصّ قبيل السعادة كلّ صفة وخاصّية جميلة كالفتح، والظَّفر، والثبات، والاستقرار، والأمن، والتأصّل، والبقاء، كما أنّ مقابلاتها من الزّهاق، والبطلان، والتزلزل، والخوف، والزوال، والمغلوبيّة، وما يشاكلها من خواصّ قبيل الشقاء.
والآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة متكثّرة، ويكفي في ذلك ما ضربه الله تعالى مثلاً: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾. إبراهيم:24-27
وقوله تعالى: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ..﴾. الأنفال:8
وقوله تعالى: ﴿..وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾. طه: 132
وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾. الصافات:171-173
5) الحسنات من الأقوال والأفعال مطابقة لحكم العقل، بخلاف السيّئات من الأفعال والأقوال، وقد تقرّر في محلّه أنّ الله سبحانه وضع ما بيّنه للناس على أساس العقل -ونعني بالعقل ما يدرِك به الإنسان الحقّ والباطل، ويميّز به الحسنَ من السيّء- ولذلك أوصى باتّباعه ونهى عن كلّ ما يوجب اختلال حكومته؛ كشرب الخمر، والقمار، واللّهو، والغشّ، وكذا نهى عن الكذب، والافتراء، والبهتان، والخيانة، والفتك، وجميع ما يُوجب خروج العقل عن سلامة الحكم، فإنّ هذه الأفعال والأعمال تُوجب خَبْط العقل الإنساني في عمله، وقد ابتُنيت الحياة الإنسانية على سلامة الإدراك والفكر في جميع شؤون الحياة الفردية والاجتماعية. وأنت إذا حلّلتَ المفاسد الاجتماعية والفردية -حتّى في المفاسد المسلّمة التي لا ينكرها منكر- وجدتَ أنّ الأساس فيها هي الأعمال التي تبطلُ بها حكومة العقل، وأنّ بقية المفاسد وإن كثُرت وعظُمت مبنيّةٌ عليها..
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (4)
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم