قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد ابو القاسم الخوئي
عن الكاتب :
مرجع شيعي كبير، ورئيس الحوزة العلمية في النجف

تمحيص الروايات الواردة في جمع القرآن (3)


السيد ابو القاسم الخوئي

نعم إن حفظ القرآن ولو ببعضه كان رائجًا بين الرجال والنساء من المسلمين، حتى أن المسلمة قد تجعل مهرها تعليم سورة من القرآن أو أكثر ومع هذا الاهتمام كله كيف يمكن أن يقال: إن جمع القرآن قد تأخر إلى زمان خلافة أبي بكر، وإن أبا بكر احتاج في جمع القرآن إلى شاهدين يشهدان أنهما سمعا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
5. مخالفة أحاديث الجمع للاجماع: إن هذه الروايات مخالفة لما أجمع عليه المسلمون قاطبة من أن القرآن لا طريق لإثباته إلا التواتر، فإنها تقول: إن إثبات آيات القرآن حين الجمع كان منحصرًا بشهادة شاهدين، أو بشهادة رجل واحد إذا كانت تعدل شهادتين، وعلى هذا فاللازم أن يثبت القرآن بالخبر الواحد أيضًا، وهل يمكن لمسلم أن يلتزم بذلك؟ ولست أدري كيف يجتمع القول بصحة هذه الروايات التي تدل على ثبوت القرآن بالبينة، مع القول بأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، أفلا يكون القطع بلزوم كون القرآن متواترًا سببًا للقطع بكذب هذه الروايات أجمع؟ ومن الغريب أن بعضهم كابن حجر فسر الشاهدين في الروايات بالكتابة والحفظ(12).

وفي ظني أن الذي حمله على ارتكاب هذا التفسير هو ما ذكرناه من لزوم التواتر في القرآن.
وعلى كل حال فهذا التفسير واضح الفساد من جهات: أما، أولا: فلمخالفته صريح تلك الروايات في جمع القرآن، وقد سمعتها.
وأما، ثانيًا: فلأن هذا التفسير يلزمه أنهم لم يكتبوا ما ثبت أنه من القرآن بالتواتر، إذا لم يكن مكتوبًا عند أحد، ومعنى ذلك أنهم أسقطوا من القرآن ما ثبت بالتواتر أنه من القرآن.
وأما، ثالثًا: فلأن الكتابة والحفظ لا يحتاج إليهما إذا كان ما تراد كتابته متواترًا، وهما لا يثبتان كونه من القرآن، إذا لم يكن متواترًا.
وعلى كل حال فلا فائدة في جعلهما شرطًا في جمع القرآن...
وعلى الجملة لا بد من طرح هذه الروايات، لأنها تدل على ثبوت القرآن بغير التواتر، وقد ثبت بطلان ذلك بإجماع المسلمين.

6. أحاديث الجمع والتحريف بالزيادة! إن هذه الروايات لو صحت، وأمكن الاستدلال بها على التحريف من جهة النقص، لكان اللازم على المستدل أن يقول بالتحريف من جهة الزيادة في القرآن أيضًا، لأن كيفية الجمع المذكورة تستلزم ذلك، ولا يمكن له أن يعتذر عن ذلك بأن حد الإعجاز في بلاغة القرآن يمنع من الزيادة عليه، فلا تقاس الزيادة على النقيصة، وذلك لأن الإعجاز في بلاغة القرآن وإن كان يمنع عن الإتيان بمثل سورة من سوره، ولكنه لا يمنع من الزيادة عليه بكلمة أو بكلمتين، بل ولا بآية كاملة، ولا سيما إذا كانت قصيرة، ولولا هذا الاحتمال لم تكن حاجة إلى شهادة شاهدين، كما في روايا ت الجمع المتقدمة، فإن الآية التي يأتي بها الرجل تثبت نفسها أنها من القرآن أو من غيره.
وإذن فلا مناص للقائل بالتحريف من القول بالزيادة أيضًا وهو خلاف إجماع المسلمين.

وخلاصة ما تقدم، أن إسناد جمع القرآن إلى الخلفاء أمر موهوم، مخالف للكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، فلا يمكن القائل بالتحريف أن يستدل به على دعواه، ولو سلمنا أن جامع القرآن هو أبو بكر في أيام خلافته، فلا ينبغي الشك في أن كيفية الجمع المذكورة في الروايات المتقدمة مكذوبة، وأن جمع القرآن كان مستندًا إلى التواتر بين المسلمين، غاية الامر أن الجامع قد دون في المصحف ما كان محفوظًا في الصدور على نحو التواتر.
نعم لا شك أن عثمان قد جمع القرآن في زمانه، لا بمعنى أنه جمع الآيات والسور في مصحف، بل بمعنى أنه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد، وأحرق المصاحف الأخرى التي تخالف ذلك المصحف، وكتب إلى البلدان أن يحرقوا ما عندهم منها، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة، وقد صرح بهذا كثير من أعلام أهل السنة.

قال الحارث المحاسبي: "المشهور عند الناس أن جامع القران عثمان، وليس كذلك، إنما حمل عثمان الناس على القراءة، بوجه واحد، على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار، لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن..."(13).
أقول: أما أن عثمان جمع المسلمين على قراءة واحدة، وهي القراءة التي كانت متعارفة بين المسلمين، والتي تلقوها بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه منع عن القراءات الأخرى المبتنية على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف، التي تقدم توضيح بطلانها، أما هذا العمل من عثمان فلم ينتقده عليه أحد من المسلمين، وذلك لأن الاختلاف في القراءة كان يؤدي إلى الاختلاف بين المسلمين، وتمزيق صفوفهم، وتفريق وحدتهم، بل كان يؤدي إلى تكفير بعضهم بعضًا.

وقد مر - فيما تقدم - بعض الروايات الدالة على أن النبي صلى الله عليه وآله منع عن الاختلاف في القرآن، ولكن الأمر الذي انتقد عليه هو إحراقه لبقية المصاحف، وأمره أهالي الأمصار بإحراق ما عندهم من المصاحف، وقد اعترض على عثمان في ذلك جماعة من المسلمين، حتى سموه بحراق المصاحف.
النتيجة: ومما ذكرناه: قد تبين للقارئ أن حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال، لا يقول به إلا من ضعف عقله، أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل، أو من ألجأه إليه يجب القول به.
والحب يعمي ويصم، وأما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه وخرافته.
ـــــــــــــ
12- الاتقان - النوع 18 ص 100.
13- الاتقان - النوع 18 ج 1 ص 103.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد