السيّد محمّد حسين الطباطبائي
﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ..﴾
الهداية من العناوين التي تُعَنْوَن بها الأفعال وتتَّصف بها؛ تقول: هَديتُ فلاناً إلى أمر كذا، إذا ذكرتَ له كيفيّة الوصول إليه، أو أريتَه الطريق الذي ينتهي إليه، وهذه هي الهدايةُ بمعنى «إراءة الطريق»، أو أخذتَ بيده وصاحبته في الطريق حتّى توصلَه إلى الغاية المطلوبة، وهذه هي الهداية بمعنى «الإيصال إلى المطلوب».
فالواقع في الخارج في جميع هذه الموارد هو «أقسام الأفعال» التي تأتي بها، من ذكر الطريق، أو إراءته، أو المشي مع الـمُهدى.
وما يُنسب إليه تعالى من الهداية ويسمّى لأجله هادياً - وهو أحد الأسماء الحسنى - من صفات الفعل المنتزعة من فعله تعالى؛ كالرحمة، والرزق، ونحوهما. وهدايته تعالى نوعان:
الأولى: الهداية التكوينية، وهي التي تتعلّق بالأمور التكوينية؛ كهدايته كلّ نوع من أنواع المخلوقات إلى كماله الذي خُلق لأجله، وإلى أفعاله التي كُتبت له، وهدايته كلّ شخص من أشخاص الخليقة إلى الأمر المقدَّر له والأجَل المضروب لوجوده؛ قال تعالى: ﴿..الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ طه:50، وقال: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ الأعلى:2-3.
الثانية: الهداية التشريعية، وهي التي تتعلّق بالأمور التشريعية؛ من الاعتقادات الحقّة، والأعمال الصالحة التي وضعها الله سبحانه للأمر والنهي والبعث والزجر، ووَعد على الأخذ بها ثواباً، وأوعد على تركها عقاباً.
ومن هذه الهداية ما هي إراءة الطريق، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ الدهر:3.
ومنها ما هي بمعنى الإيصال إلى المطلوب، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ..﴾ الأعراف:176. وقد عرّف الله، سبحانه، هذه الهداية تعريفاً بقوله: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ الأنعام:125؛ فهي انبساطٌ خاصٌّ في القلب، يعي به القولَ الحقّ والعمل الصالح من غير أن يتضيّق به، وتهيّؤ مخصوص لا يأبى به التسليم لأمر الله، ولا يتحرّج عن حكمه.
وحدانيّة الهداية
وقد رسم الله، سبحانه، لهذه الهداية رسماً آخر، وهو ما في قوله عقيب ذكره هدايته أنبياءه الكرام وما خصّهم به من النِّعَم العظام: ﴿..وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ الأنعام:87-88، فالآية تدلّ على أنّ من خصائص الهداية الإلهية أنّها تُورد المهتدين بها صراطاً مستقيماً وطريقاً سويّاً، لا تَخلُّف فيه ولا اختلاف، فلا بعض أجزاء صراطه الذي هو دينُه، بما فيه من المعارف والشرائع، يناقض البعض الآخر - لما أنّ الجميع يمثّل التوحيد الخالص الذي ليس إلّا حقيقة ثابتة واحدة، ولما أنّ كلّها مبنيّة على الفطرة الإلهية التي لا تخطئ في حكمها ولا تتبدّل في نفسها ولا في مقتضياتها - ولا بعض الراكبين عليه السائرين فيه يخالفون بعضاً آخر؛ فالذي يدعو إليه نبيٌّ من أنبياء الله هو الذي يدعو إليه جميعهم، والذي يندب إليه خاتمهم وآخرهم هو الذي يندب إليه آدمهم وأوّلهم، من غير أيّ فرق، إلّا من حيث الإجمال والتفصيل.
معنى الهداية في الروايات
* في (الكافي) بإسناده عن زيد، قال: «سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام، يَقُولُ فِي قَوْلِ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الأنعام:122، فَقَالَ: مَيْتٌ لَا يَعْرِفُ شَيْئاً. و﴿..نُوراً يَمْشِي بِه فِي النَّاسِ..﴾، قال: إِمَاماً يُؤْتَمُّ بِه.
و﴿.. كَمَنْ مَثَلُه فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها..﴾، قَالَ: الَّذِي لَا يَعْرِفُ الإِمَامَ».
أقول: وهو من قبيل الجري والانطباق، فسياق الآية يأبى إلّا أن تكون الحياة هي الإيمان، والنور هو الهداية الإلهية إلى القول الحقّ والعمل الصالح.
* وفي (الدر المنثور)، عن ابن مسعود، قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين نزلت هذه الآية: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، قال:
إِذا أَدْخَلَ اللهُ النّورَ القَلْبَ انْشَرَحَ وَانْفَسَحَ، قالوا: فهل لذلك آية يُعرف بها؟ قال:الإِنابَةُ إِلى دارِ الخُلودِ، وَالتَّجافي عَنْ دارِ الغَرورِ، وَالاسْتِعْدادُ للمَوْتِ قَبْلَ نُزولِ المَوْتِ».
* وفي (عيون أخبار الرضا عليه السلام)، عن حمدان بن سليمان النيسابوري، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام، عن قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ..﴾، قال: «فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ بإيمانِهِ في الدُّنْيا وَإِلى جَنَّتِهِ وَدارِ كَرامَتِهِ في الآخِرَةِ، يَشْرَحْ صَدْرَهُ للتَّسْليمِ للهِ والثِّقَةِ بِهِ وَالسُّكونِ إِلى ما وَعَدَ مِنْ ثَوابِهِ، حَتَّى يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ، ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ عَنْ جَنَّتِهِ وَدارِ كَرامَتِهِ في الآخِرَةِ لِكُفْرِهِ بِهِ وَعِصْيانِهِ لَهُ في الدُّنْيا يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا حَتّى يَشُكَّ فِي (إِيمَانِه) وَيَضْطَرِبَ عَنِ اعْتِقادِهِ حَتَّى يَصيرَ كَأَنَّما يَصَّعَّدُ في السَّماءِ، كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ».
* وفي (الكافي)، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: «إِنَّ اللهَ، عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً، نَكَتَ فِي قَلْبِه نُكْتَةً مِنْ نُورٍ، وفَتَحَ مَسَامِعَ قَلْبِهِ، ووَكَّلَ بِه مَلَكاً يُسَدِّدُهُ.
وإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ سُوءاً نَكَتَ فِي قَلْبِه نُكْتَةً سَوْدَاءَ، وسَدَّ مَسَامِعَ قَلْبِهِ، ووَكَّلَ بِه شَيْطَاناً يُضِلُّه.
ثُمَّ تَلَا هَذِه الآيَةَ: ﴿فَمَنْ يُرِدِ الله أَنْ يَهْدِيَه يَشْرَحْ صَدْرَه لِلإِسْلامِ...﴾».
* وفي (الكافي) أيضاً، عنه عليه السلام، قال: «إِنَّ الْقَلْبَ لَيَتَجَلْجَلُ فِي الْجَوْفِ يَطْلُبُ الْحَقَّ فَإِذَا أَصَابَه اطْمَأَنَّ وقَرَّ، ثُمَّ تَلَا أَبُو عَبْدِ الله عليه السلام، هَذِه الآيَةَ: ﴿فَمَنْ يُرِدِ الله أَنْ يَهْدِيَه يَشْرَحْ صَدْرَه لِلإِسْلامِ...﴾...».
* وفي (تفسير العياشي) عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام في معنى «الحَرَج» الوارد في الآية: ﴿.. وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا..﴾، قال: «كَالشَّيءِ المُصْمَتِ، لَا يَدْخُلُ فِيهِ شَيْءٌ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ». والمُصمَت لغةً هو الذي لا يخالطه شيء.
* وفيه أيضاً عنه عليه السلام في معنى «الرِّجْس» في قوله تعالى: ﴿.. كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، قال عليه السلام: «هو الشَّكُّ».
أقول: وهو من قبيل التطبيق وبيان بعض المصاديق.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع