قرآنيات

سورة العنكبوت (2)

 

الشيخ محمد جواد مغنية
(45): ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ﴾: القرآن، وتقدم في الآية 27 من الكهف ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾: لتشريع وجوب الصلاة علة وحكمة، وعلة الوجوب مشيئة الله وكفى، أما الحكمة منه فهي أن يبتعد المصلي في جميع تصرفاته ومقاصده عن الفحشاء والمنكر أي عن الحرام بشتى أنواعه، ومعنى هذا أن الانتهاء عن المنكر حكمة لوجوب الصلاة في عالم التشريع لا لوجود الصلاة في الخارج، فمن صلى وانتهى يسقط عنه وجوب الصلاة ويثاب عليها أيضًا، ومن صلى ولم ينته يسقط عنه الفرض قطعًا، أما الثواب فبعلم الله، تقول هذا علمًا بأن الفقهاء ربطوا بين الثواب على الصلاة، والتوجه إليها فكرًا وقلبًا لا بين الثواب والإنتهاء ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾: أي ذكر الله تعالى للمصلي بالرضا والأجر أكبر من ذكر المصلي لله في قيامه وقعوده وركوعه وسجوده، ومثله قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم – 152 البقرة).
(46): ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾: أهل الكتاب: اليهود والنصارى، والأحسن: الأصلح والأنجح الذي يقرب ولا يبعد، ويبشر ولا ينفر، وإنما خص سبحانه أهل الكتاب بالذكر علمًا بأن الأسلوب هو المطلوب من غير قيد لأن المفروض من أهل الكتاب أن يتقبلوا الحق ما داموا يؤمنون بالله واليوم الآخر كما يزعمون ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾: وهم الذين إذا سمعوا القول لا يتبعون أحسنه تعنتًا وتعصبًا. فهؤلاء لا يسوغ الحديث معهم بحال ﴿وَقُولُو﴾: أيها المسلمون لأهل الكتاب: ﴿آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ... ﴾: لماذا التعصب والتباغض؟ فعلى الصعيد الإنساني نحن وأنتم سواء في الحقوق والواجبات، أما على الصعيد الديني فكلنا نؤمن بوحي السماء. هكذا ينظر الإسلام إلى أهل الكتاب نظرة التسامح والإخاء لا نظرة التعصب والعداء، وشهد بذلك العديد من أقطاب المسيحيين المنصفين منهم (جيدر بامات) في كتابه مجالي الإسلام تعريف عادل زعيتر، فقد جاء في الفصل الثاني نظرة في مذهب الإسلام (من النادر أن لاقى دين ما لاقى من جحود وتشويه من المبشرات البالغة الغلظة والمقترحات البالغة الوقاحة حول محمد وتعاليمه ... مع العلم بأن المسلمين منعوا من أن يمس النصارى بسوء، وتركوا المغلوبين أحرارًا في المحافظة على دينهم، ولما صار الصليبيون سادة ذبحوا المسلمين بلا رحمة).


(47): ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾: أي كما أنزلنا على من قبلك من الرسل كذلك أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن ﴿فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾: يريد سبحانه العلماء المنصفين من أهل الكتاب ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾: يصدقون كل ما جاء في القرآن ﴿وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ﴾: هؤلاء إشارة إلى مشركي قريش فقد أسلم بعضهم عن صدق وإخلاص.
(48): ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾: هل يخطر على ذهن عاقل بأن هذا القرآن من إنشاء محمد وفيه من الحقائق والعلوم ما يجهله محمد وغيره قبل نزول القرآن إضافة إلى أنه لا يقرأ ولا يكتب كي يتشدق ويتحذلق جاهل سافل بأن محمدًا قرأ ونقل بقلمه من أسفار الأولين.
(49): ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾: وهم محمد وأهل بيته (ص) الذين هم خزنة علمه، والعلماء المتمسكون بعروته.
(50): ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ﴾: يريدون بالآيات ما يقترحون ويشتهون كتحويل الجبل ذهبًا، وتقدم في الآية 37 من الأنعام ﴿قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ﴾: وليس لي من الأمر شيء ﴿وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾: مهمتي التبليغ وكفى.
(51): ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾: القرآن، وكل ما فيه من حقائق علمية وشريعة حياتية وتحديات ونبوءات حدثت وتحققت – تشهد بأنه من عند الله هدى لعباده على مدى الحياة.
(52): ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدً﴾: بأنه أرسلني إليكم، وأني قد بلغت رسالته على أكمل وجه، وأنكم قد كذبتم وأعرضتم ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ﴾: كل ما نهى الله عنه فهو باطل، وكل من عصى الله فهو فاسق أو كافر، والكل جائر وخاسر.
(53): ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾: أن يحل بهم ﴿وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى﴾: أي تأخير العذاب إلى يوم القيامة﴿لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ﴾: قريبًا وسريعًا.
(54): ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾: هم يستعجلون العذاب ويسخرون؟ وهو آت لا محالة.
(55): ﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ﴾: من كل جهة، فتأكل النار الجلود واللحوم والعظام والقلوب تمامًا كما تأكل الحطب... رحماك يا رحيم. وشفيعي إليك قلبي الذي يحبك، ودليل حبه لك نصحه لعيالك، وأنت أعلم بذلك مني ومنه.


(56): ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾: على كل مسلم، بنص هذه الآية، أن يهجر ويفر من أي أرض يتعذر عليه فيها أن يفعل الواجبات ويترك المحرمات حتى ولو كانت الأرض بلده ووطنه.
(57): ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾: مقيمة كانت أم مهاجرة.
(58): ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفً﴾: مقيمين أم مهاجرين، بل فضل الله على المجاهدين في سبيل الله درجة وكلا وعد الله الحسنى.
(59): ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾: ثبتوا على دينهم وهاجروا به، وتوكلوا على الله في كل حال، وقد رأينا أرزاق المهاجرين أكثر وأوسع، وأطيب وأنفع.
(60): ﴿وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾: الله سبحانه هو الذي يعطي كل نفس جميع ما تحتاج، ولكن مع الحركة والعمل لأنه أبى سبحانه إلا أن يربط المسببات بأسبابها والنتائج بمقدماتها، وحركة كل حي بحسبه، كما نرى من سعي النحلة والنملة والطير ووحش الغاب، ومن الإنسان وكل حيوان أما المريض أو الكسيح فإن الله يسخر له من يقوم بحاجته، وفي شتى الأحوال فإن أسباب الرزق وغيره تنتهي إليه لأنه خالق كل شيء. وكتبت كثيرًا حول الرزق، ولعل أفضله – فيما أظن – ما ذكرته في شرح الحكمة 378 من حكم نهج البلاغة. أنظر في ظلال نهج البلاغة ج4 ص440.
(61): ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ... ﴾: المسؤلون هم الجبابرة المترفون، وقد أعلنوا إيمانهم بالله الذي منحهم الحرية المطلقة في أن يزلزلوا الأمن والأمان، ويرهبوا العالم، وينهبوا الأمم! وما من شك أن هذه الفئة الحرة القذرة هي أسوأ حالاً عند الله ممن كفر به أو أشرك.
(62): ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ﴾: أي يضيق، وقلنا فيما تقدم ونكرر أن مشيئة الله منزهة عن العبث والمجازفة وعليه يكون معنى الآية أن الله سبحانه يوسع الرزق أو يضيقه تبعًا لأسبابه السائغة شرعًا وعقلاً، أما المال الحرام فما هو من رزق الله في شيء، بل هو غضب ونهب وسموم ويحموم.
(63): ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾: الماء هو السبب الأول والأساس للرزق، وقد أنزله الله من السماء باعتراف المحتكرين والمستأثرين والله للجميع لا لفئة دون فئة أو لفرد دون فرد، فالرزق كذلك لا يسوغ لأحد أن يحتكره ويتحكم به.


(64): ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ﴾: المراد بالدنيا هنا القصور والفجور والصهباء والليالي الحمراء، والبذخ على حساب الفقراء وإلا فإن المال الحلال أحد السبل لمرضاة الله وطاعته، ونقلوا عن الإمام الشافعي أنه كان لا يحسن التفكير في مسألة إذا شعر أن بيته خلا من الدقيق. وقال الرسول الأعظم (ص): (كاد الفقر يكون كفرًا) ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾: الحياة الطيبة الدائمة وهذه الحياة وقف على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومعنى هذا أن الإسلام يربط بين دنيا الخير والآخرة بحيث تدور هذه مع تلك وجودًا وعدمًا.
(65): ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ... ﴾:ُ تقدم في الآية 22 من يونس.
(66): ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾: هذا تهديد ووعيد للطغاة من أرباب الجاه والمال، وأن مآلهم شر مآل.
(67): ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنً﴾: واو الجماعة في يروا لعتاة قريش الذين نصبوا العداء للنبي (ص) ووصلوا في حربه وإيذاءه حدًا بعيدًا، ويقول سبحانه لهؤلاءَ: تتمردون على طاعة الله وقد أحلكم في حرمه دار الأمن والأمان؟ ﴿ويُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾: أي وأعراب الجاهلية حول مكة يقتل بعضهم بعضًا، وينهبون ويسلبون ولا أحد منهم يمس أهلها بسوء، أفبنعمة الله يجحدون وللأصنام يعبدون؟.
(68): ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبً﴾: حيث جعلوا له أضدادًا وأندادًا ﴿أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ﴾: القرآن ونبوة محمد (ص).
(69): ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَ﴾: ومنهم من تعلم العلم النافع وعمل به وعلمه الناس، وأيضًا منهم من أتى بجديد مفيد لأخيه الإنسان، ومن جاهد الضلال والفساد، وكافح في سبيل العيش الحلال ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾: ولا يختص الإحسان بأداء الفرائض فقط ولا بالصدقات، بل يعم ويشمل الشعور باحترام الإنسان وكرامته وكف الأذى عنه.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد