من الواضح أنّ التواضع يشكل النقطة المقابلة للتكبّر والغرور، ومن العسير الفصل الكامل بين هذين البحثين، ولذلك نجد أنّ هذين البحثين متلازمين في الآيات والروايات الإسلامية وكذلك في كلمات علماء الأخلاق، فإنّ ذم أحدهما يلازم مدح الآخر، وكذلك العكس فإنّ عملية التمجيد والثناء على التواضع يستلزم كذلك ذم التكبّر، وهذا من قبيل مدح العلم والثناء على العالم والمتعلم الّذي يقترن دائماً مع ذمّ الجهل وتوبيخ الجاهل.
وعلى كلّ حال فإنّ هذا الكلام لا يعني أنّ بحثنا المتعلق بالتواضع هذا سيكون في زاوية النسيان ونكتفي بذم التكبّر وبيان قبائح وعواقب هذه الصفة الذميمة لا سيّما أن بين التكبّر والتواضع نسبة الضدّين. لا النقيضين أي أنّ التكبّر كما أنه صفة وجودية فكذلك التواضع صفة وجودية نفسانية أيضاً ويقعان على الضد من الآخر في واقع الإنسان ونفسه، وليسا من قبيل الوجود والعدم الّذي يستلزم بالضرورة وجود أحدهما عدم الآخر بالتبع.
وفي الروايات الإسلامية نجد إشارة إلى هذا المعنى أيضاً ومن ذلك قول الإمام علي عليه السلام: «ضَادُّوا الْكِبْرَ بِالتَّواضُعِ» (1).
مع هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته ما يتعلق بمسألة التواضع ونختار منها ما يُلقي الضوء على هذا البحث المهم رغم وجود آيات كثيرة تبحث هذا الموضوع بالكناية أو بالملازمة.
1 ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ...)(2)
2 ـ (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)(3).
3 ـ (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(4).
تفسير واستنتاج :
«الآية الأولى» من الآيات مورد البحث تتحدّث عن مجموعة من المؤمنين الّذين شملتهم رعاية الله وعنايته فكانوا يحبون الله ويحبهم، وإحدى الصفات البارزة لهؤلاء أنّهم يتعاملون مع أخوانهم المؤمنين من موقع التواضع والمودّة (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وكذلك في المقابل (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ).
(أذِلَّةٍ) جمع «ذلول» و«ذليل» ، ومن مادة «ذُل» على وزن حُر، وهي في الأصل بمعنى الملاءمة والتسليم والليونة والانعطاف في حين أنّ كلمة «أعِزَّة» جمع «عزيز» ومن مادّة «عزة» وتأتي بمعنى الشدّة والصلابة، ويقال للحيوانات المطيعة «ذلول» لأنها ملائمة ومسلّمة للإنسان، و«تذليل» في الآية الشريفة «ذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً» إشارة إلى هذا المعنى، وهو سهولة اقتطاف ثمارها ثمار الجنّة، وأحياناً تُستخدم كلمة «ذِلّة» في موارد سلبية وذلك إذا واجه الإنسان موقفاً يُجبر فيه على شيء من غيره، وإلّا فإنّ المعنى السلبي لهذه الكلمة لا يوجد في بطنها ومفهومها في الأصل.
وعلى أيّة حال فإنّ الآية الشريفة تدل بوضوح على أهمية التواضع وسمو مقام المتواضعين، ذلك التواضع الّذي ينبع من أعماق الإنسان ويمتد إلى وجدانه ليذيع في النفس احترام الطرف الآخر المؤمن ويتحرّك معه من موقع المودّة والتسليم والانعطاف مع الطرف الآخر.
في «الآية الثانية» نجد إشارة أيضاً إلى الصفات البارزة والفضائل الأخلاقية لجماعة من عباد الله تعالى الّذين وصلوا في سلوكهم المعنوي إلى مرتبة عالية من الكمال الإنساني والإلهي، حيث نقرأ في آيات سورة الفرقان من الآية 63 إلى الآية 74 اثنا عشر فضيلة مهمة وكبيرة لهؤلاء الأشخاص، والملفت للنظر أنّ أول صفة تذكرها الآية لهؤلاء هي صفة التواضع، وهذا يدلّ على أنّ التكبّر كما يمثل أخطر الرذائل الأخلاقية فكذلك التواضع يمثل أهم الفضائل الأخلاقية في واقع الإنسان وحركته الاجتماعية والمعنوية حيث تقول الآية (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً).
(هون) مصدر بمعنى الهدوء والليونة والتواضع، واستعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل هنا لغرض التأكيد، أي أنّهم يعيشون التواضع والهدوء إلى درجة وكأنهم عين التواضع، ولهذا السبب تستمر الآية في سياقها بالقول (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)؛ أي لو واجههم الجهلاء والأراذل من الناس من موقع الشتيمة والكلام الباطل فإنّ جوابهم لا يكون إلّا بعدم الاعتناء وغض الطرف من موقع عظمة شخصيتهم وكِبَر نفوسهم.
وفي الآية الّتي تليها وبعد أن يتم الحديث عن التواضع مع الآخرين من الناس يتحدّث القرآن الكريم عن تواضعهم أمام الله تعالى ويقول (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً).
ويقول الراغب في كتابه «مفردات القرآن»: الهوان على وجهين، أحدهما: تذلل الإنسان في نفسه لما لا يلحق به غضاضة، فيمدح به (ثم يورد الآية محل البحث) ونحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله: «المؤمن هيّن ليّن» (5). الثاني: أن يكون عن جهة متسلِّط مستخف به فيذمّ به (6).
ولا يخفى أنّ المقصود بقوله: (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) ليس هو المشي في حالة التواضع فحسب، بل المقصود نفي كلَّ نوع من التكبّر والأنانية والسلوكيات السلبية النابعة من حالة التكبّر السلبية والّتي تتجلّى في أعمال الإنسان وأفعاله الأخرى، وذكرت الآية المشي باعتباره نموذجًا عمليًّا للدلالة على وجود التواضع كملكة نفسانية لدى هؤلاء، لأن الملكات الأخلاقية تتجلّى دائماً على كلمات الإنسان وحركاته الخارجية إلى درجة أنّه في الكثير من الحالات يُستدل على وجود أنواع من الصفات الأخلاقية في الشخص بواسطة المشي.
أجل فإنّ أول صفة لعباد الرحمن هي التواضع الّذي يملأ وجودهم وينفذ إلى أعمال نفوسهم فيتجلّى ويظهر على حركاتهم وسكناتهم وكلماتهم، وعند ما نرى أنّ الله تعالى في الآية 37 من سورة الإسراء يأمر نبيه الكريم بالقول «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً» فالمقصود ليس هو النهي عن حالة المشي بصورة معينة فحسب، بل الهدف هو غرس التواضع في جميع الحالات والسلوكيات الأخرى والّذي يُعد علامة على عبودية الله تعالى.
«الآية الثالثة» تخاطب النبي الأكرم وتقول (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
«خفض» على وزن «كرب» هو في الأصل بمعنى السحب إلى الأسفل، وعليه فجملة (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ) كناية عن التواضع المقرون بالمحبة والحنان كما هو حال الطائر الّذي يفتح جناحه ويضم إليه فراخه إظهاراً للمحبّة وبدافع الحنان ولصونهم من الأخطار المحتملة وحفظهم من التفرّق، وعلى هذا الأساس فإنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله مأمور بأن يتحرّك من هذا الموقع ليحفظ المؤمنين تحت جناحه وظلّه.
وهذا التعبير جميل جدّاً ومليء بالمعاني والنكات الدقيقة الّتي جُمعت في جملة واحدة.
وعندما يُؤمر نبي الإسلام بالتواضع وإظهار المحبّة للمؤمنين فإنّ وظيفة المؤمنين وتكليفهم الأخلاقي تجاه بعضهم البعض واضح، لأن النبي الأكرم يُعتبر قدوة واسوة لجميع أفراد الأمّة الإسلامية.
وقد ورد هذا المضمون أيضاً في الآية 88 من سورة الحجر حيث يقول تعالى (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) وهنا نرى أنّ المخاطب في هذه الآية هو النبي الأكرم أيضاً حيث أمره الله تعالى بخفض جناحه للمؤمنين أي بالتواضع المقرون بالمحبّة في تعامله مع أتباعه من المؤمنين.
وشبيه هذه العبارة مع تفاوت بسيط ورد في سورة الإسراء كتكليف للمسلم تجاه والديه حيث تقول الآية (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ).
ومن مجموع ما ورد من الآيات أعلاه نستوحي جيداً أنّ القرآن الكريم لم يكتف بذم التكبّر والاستكبار في مجمل السلوك الأخلاقي للإنسان بل أكد على النقطة المقابلة له أي التواضع والانعطاف وأثنى عليه بتعبيرات مختلفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1).. تصنيف غرر الحكم ، ح 5148 ، ص 249 ، وشرح غرر الحكم ، ص 232 ، رقم 5920.
(2). سورة المائدة ، الآية 54.
(3). سورة الفرقان ، الآية 63.
(4). سورة الشعراء ، الآية 215.
(5). كنز العمال ، ح 690.
(6). مفردات الراغب ، مادة (هون).
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة
اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
لا يدرك الخير إلّا بالجدّ
الوصول إلى حالة الانغماس وقياس مستواها