ثمّة ظاهرة، هي: أنّ القرآن الكريم تحدّث عن مجموعة من الأنبياء كانوا يعيشون جميعًا في منطقة الشرق الأوسط، أي: المنطقة التي كان يتفاعل معها العرب الذين نزل القرآن في محيطهم ومجتمعهم. وقد تفسّر هذه الظاهرة بأنّ النبوّات كانت بالأصل في هذه المنطقة، ومن خلالها انتشر الهدى في جميع أنحاء العالم، ويؤيد ذلك الاستعراض التاريخيّ للنبوّات وتاريخ الإنسان في التوراة، وبعض الأبحاث الآثارية والروايات الدينية خصوصًا الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، وحينئذ يصبح تفسير هذه الظاهرة واضحًا، وهو: أنّ الواقع التاريخيّ للحياة الإنسانية فرض هذه الظاهرة.
ولكن توجد شواهد في القرآن الكريم تنفي هذا التفسير لهذه الظاهرة، فالقرآن يشير في بعض آياته إلى أنّ هناك مجموعة أخرى من الأنبياء لم يتحدّث عنهم القرآن الكريم، مع أنّ حياتهم لا بدّ أنّها كانت زاخرة بالأحداث، شأنهم في ذلك شأن الأنبياء الآخرين:
(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً)(1).
كما أنّ هذا المضمون جاء ـ أيضًا ـ في سورة (غافر / 78)، علمًا بأنّ سورة النساء من السور المدنية المتأخرة، ومن هنا فلا مجال لاحتمال أنّ هذه الآية نزلت في فترة زمنية لم يكن القرآن قد تعرّض فيها إلى جميع قصص الأنبياء التي وردت في القرآن الكريم.
وهناك مجموعة من الآيات تدلّ على أنّ الأنبياء والرسل كانوا يبعثون إلى كل قرية ومدينة؛ لإقامة الحجّة من الله على الناس، كما نفهم من الآية (165) من سورة النساء التي جاءت في سياق الآيتين السابقتين. (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(2).
وبالإضافة إلى موارد أخرى لها هذه الدلالة:
(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(3).
(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ...)(4).
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(5).
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ)(6).
وجاء التعبير في بعض الآيات عن ذلك بوجود الشهيد في كلّ أمة (النساء / 41 ، النحل / 84 ، القصص / 75).
ومن هنا فلا بدّ من تفسير هذه الظاهرة بتفسير آخر كأن يكون الغرض الأساس من القصّة ـ كما ذكرنا ـ هو انتزاع العبرة واستنباط القوانين والسنن التأريخية منها، ولم يكن الغرض من القصّة السرد التأريخي لحياة الأنبياء أو كتابة تأريخ الرسالات، ولذلك يتحدّث القرآن عن الأمور العامّة المشتركة بين هؤلاء الأنبياء، عدا بعض الموارد التي يكون هناك غرض خاص في طرح بعض القضايا فيها.
ولـمّا كان تأثير القصّة في تحقيق هذه الأغراض يرتبط بمدى إيمان الجماعة بواقعيتها وإدراكهم لحقائقها، ومدى انطباق ظروفها على ظروف الجماعة نفسها؛ لذا تكون القصّة المنتزعة من تاريخ الأمّة نفسها ومن واقعها وظروفها وحياتها أكثر تأكيدًا وانطباقًا على السنّة التأريخية، وأكثر تأثيرًا في الواقع الروحي والنفسي للجماعة، مع التأكيد على أنّ صفة (الواقعيّة) من الصفات التي تتميّز بها القصّة القرآنية.
وبهذا تكون هذه القصص أكثر انسجامًا مع هذا الهدف القرآني، بلحاظ أنّ القاعدة التي يريد أنّ يحقق القرآن الكريم التغيير فيها في المرحلة الأولى هي: الشعوب التي تسكن هذه المنطقة، وتتفاعل مع هذا التاريخ، وهذا لا يعني أنّ القرآن الكريم تختصّ هدايته بهذه الشعوب، بل أحد أغراض القرآن هو إيجاد التغيير في هذه الشعوب كقاعدة ينطلق منها التغيير، ويستند إليها في مسيرته إلى بقيّة الشعوب كما حصل ذلك فعلًا....
صحيح أنّه قد تكون القصّة المنتزعة من تاريخ النبوّات التي كانت في الهند أو الصين ـ على فرض وجودها في تلك المناطق، وهو فرض منطقي ومقبول جدًّا ـ مؤثرة في الشعب الهنديّ أو الصينيّ، إلا أنّ القرآن الكريم كان مهتمًّا بشكل خاص وفي مرحلة نزوله بتغيير القاعدة التي تتمثل بالشعب العربيّ والشعوب المتفاعلة معه فعلًا في ذلك الوقت. وضرب الأمثال وسرد القصص عن هذه الأمم التي لم تكن موجودة في المحيط الذي نزل فيه القرآن يبعد القصّة بأكملها عن (الواقعية) التي حرص القرآن الكريم على تأكيدها في قصصه، ولكن تبقى النتائج العامّة المشتركة بين الأنبياء ذات تأثير عام بالنسبة إلى مختلف الشعوب.
فقصّة النبيّ الواحد لها تأثير خاص يرتبط بالوسط الذي تواجد فيه ذلك النبيّ، باعتبارها حالة التجسيد المعاش في ذلك الوسط، وذات التأثير الشعوريّ والوجدانيّ فيه. وفي الوقت نفسه يكون للقصّة تأثير عام ضمن المفاهيم العامة والسنن التأريخية التي توحي بها القصّة، والعبر التي يمكن أنّ تستخلص منها، وهذا ما يمكن أنّ تستفيد منه كلّ الشعوب الأخرى. وبذلك يتحقّق القرآن الكريم ببعده العام الشامل، ويبقى حيًّا ومؤثرًا في هذا الوسط وغيره من الأوساط الإنسانية.
نعم، من الصحيح أن نضيف ـ أيضًا ـ القول: إنّ الأنبياء مثل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام يمثلون الأصول العامة للنبوّات في كلّ العالم، وكان خاتمهم النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم يمثل امتدادًا لتلك النبوّات، ولكن نجد أنّ القرآن لم يتحدّث عن هذه الأصول وتفرعاتها فحسب، بل تحدّث عن أنبياء مثل: صالح وشعيب وهود ويونس وإدريس عليهم السلام، وغيرهم ممّن يمثلون نبوّات ليست بهذا القدر من الأهميّة على الظاهر. والله هو العالم بحقائق الأمور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النساء : 163 ـ 164.
(2) النساء : 165.
(3) النحل : 36.
(4) التوبة : 115.
(5) يونس : 47.
(6) فاطر : 24.
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان