لقد جاءت القصّة في القرآن الكريم لتساهم في عملية التغيير الإنساني بجوانبها المتعدّدة، فما هي الأغراض ذات الأثر الرسالي التي استهدفتها القصّة القرآنية؟
وبهذا الصدد نجد القصّة القرآنية تكاد تستوعب في مضمونها وهدفها جميع الأغراض الرئيسة التي جاء من أجلها القرآن الكريم، ونظرًا لكثرة هذه الأغراض وتشعبها نجد من المستحسن أن نقتصر في عرضنا لأغراض القصّة في القرآن على الأغراض القرآنية المهمة؛ لنتعرّف من ذلك على أهمية ذكر القصّة في القرآن الكريم والفوائد التي تترتب عليها. وتنقسم هذه الأغراض إلى أقسام ثلاثة (1):
الأوّل ـ الأغراض الرسالية:
أ ـ إثبات الوحي والرسالة، وأنّ ما جاء به القرآن الكريم لم يكن من عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنّما هو وحي أوحاه الله ـ تعالى ـ إليه وأنزله هداية للبشرية.
...وإنّ حديث النبي محمّد صلى الله عليه وآله عن أخبار الأمم السالفة وأنبيائهم ورسلهم بهذه الدقة والتفصيل والثقة والطمأنينة ـ مع ملاحظة ظروفه الثقافية والاجتماعية ـ يكشف عن حقيقة ثابتة، وهي: تلقّيه هذه الأنباء والأخبار من مصدر غيبي مطّلع على الأسرار، وما خفي من بواطن الأمور، وهذا المصدر هو: الله سبحانه وتعالى.
وقد نصّ القرآن الكريم على أنّ من أهداف القصّة هو هذا الغرض السامي، وذلك في مقدّمة بعض القصص القرآنية أو ذيلها.
فقد جاء في سورة يوسف: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ)(2).
كما أشار إلى ذلك في نهاية القصّة من نفس السورة: (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ)(3).
وجاء في سورة القصص بعد عرضه لقصة موسى: (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ* وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(4).
وجاء في سورة آل عمران في مبدأ قصّة مريم: (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)(5).
وجاء في سورة (ص) قبل عرضه لقصّة آدم: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ* أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ* ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ* إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ)(6).
وجاء في سورة هود بعد قصّة نوح: (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)(7).
فكلّ هذه الآيات الكريمة وغيرها تشير إلى أنّ القصّة إنّما جاءت في القرآن تأكيدًا لفكرة الوحي التي هي الفكرة الأساس في الشريعة الإسلامية.
ب ـ وحدة الدين والعقيدة لجميع الأنبياء، وأنّ الدين كلّه من الله سبحانه، وأنّ الأساس للدين الذي جاء به الأنبياء المتعددون، هو أساس واحد لا يختلف بين نبي وآخر، فالدين واحد، ومصدر الدين واحد أيضًا، وجميع الأنبياء أمّة واحدة تعبد هذا الإله الواحد وتدعو إليه.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في عدّة مواضع:
(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(8).
وقوله تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)(9).
وقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ ...)(10).
وقوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(11).
وهذا الغرض يهدف فيما يهدف إلى:
1 ـ إبراز الصلة الوثيقة بين الإسلام الحنيف وسائر الأديان الإلهيّة الأخرى التي دعا إليها الرسل والأنبياء الآخرون، وأنّ الإسلام يمثل امتدادًا لها، ولكنّه يحتل منها مركز الخاتمة التي يجب على الإنسانية أن تنتهي إليها، وبذلك يسدّ الطريق على الزيغ الذي يدعو إلى التمسك بالأديان السابقة؛ على أساس أنّها حقيقة موحاة من قبل الله تعالى؛ لأنّ الإسلام يصدقها بذلك، ولكنّه جاء في نفس الوقت مهيمنًا عليها (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ...)(12).
2 ـ مضافًا إلى ذلك تظهر الدعوة على أنّها ليست بدعًا في تأريخ الرسالات، وإنّما هي وطيدة الصلة بها في أهدافها وأفكارها ومفاهيمها (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ...)(13) ، بل إنّها تمثل امتدادًا لهذه الرسالات الإلهيّة، وتلك الرسالات تمثل الجذر التاريخي للرسالة الإسلامية، فهي رسالة (أخلاقية) وتغييريّة، لها هذا الامتداد في التأريخ الإنساني، ولها هذا القدر من الأنصار والمضحّين والمؤمنين.
وعلى أساس هذا الغرض تكرر ورود عدد من قصص الأنبياء في سورة واحدة، ومعروضة بطريقة خاصة؛ لتؤكد هذا الارتباط الوثيق بينهم في الوحي والدعوة التي تأتي عن طريق هذا الوحي. ولنضرب لذلك مثلًا ما جاء في سورة الأنبياء:
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ* وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ).
(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ* قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) إلى قوله:
(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ* وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ* وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ* وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ).
(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ* وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).
(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ* وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ).
(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ* فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ* وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ).
(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ* وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ).
(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ).
(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ* وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ).
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ* فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).
(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ* فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ).
(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ).
(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)(14).
ويبدو أنّ القرآن الكريم يريد أن يشير إلى الغرض من هذا الاستعراض لقصص الأنبياء بالآية الخاتمة المعبّرة عن هذه الوحدة العميقة الجذور في القدم للأمّة المؤمنة بالإله الواحد... وتأتي بقية الأغراض الأخرى في ثنايا هذا الاستعراض أيضًا، ولا يبعد أن يكون من أهم هذه الأغراض في هذا الاستعراض هو بيان الاشتراك بين الأنبياء في النعم الإلهيّة، كما هو واضح من السياق والمضمون.
ومثال آخر يوضح وحدة العقيدة الاساسية التي استهدفها الأنبياء في تأريخهم الطويل وفي نضالهم المتواصل، هذه العقيدة التي تدعو إلى الإيمان بالله سبحانه إلـهًا واحدًا لا شريك له في ملكه، وذلك ما جاء في سورة الأعراف:
(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ...).
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ...).
(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ...)(15).
فإنّ الابتداء بقصّة كلّ نبي بهذه الطريقة يؤكد وحدة العقيدة والدين لجميع هؤلاء الأنبياء.
فالإله واحد، والعقيدة واحدة، والأنبياء أمّة واحدة، والدين واحد، وكلّه لواحد، هو الله سبحانه، وإن كان هناك أغراض أخرى قد تترتب على هذا الاستعراض كما سوف نلاحظ.
ج ـ بيان أنّ وسائل الأنبياء وأساليبهم في الدعوة واحدة، وطريقة مجابهة قومهم لهم واستقبالهم متشابهة، وأنّ العوامل والأسباب والظواهر التي تواجهها الدعوة واحدة، وقد أكّد القرآن الكريم في عدة مواضع هذه الحقيقة، وأشار إلى اشتراك الأنبياء في قضايا كثيرة، من ذلك قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ...)(16).
وقوله تعالى: (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ)(17).
وكذلك قوله تعالى: (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(18).
ويتحدّث القرآن الكريم ـ أحيانًا ـ عن الرسل حديثًا عامًّا؛ ليؤكد هذه الوحدة بينهم في الوسائل والأساليب ... كما جاء في سورة إبراهيم (... جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ ...)(19).
والسبب وراء تأكيد القرآن لهذه الحقيقة هو: بيان صحة هذه المواقف الرسالية وأساليبها من ناحية، ونتائجها وآثارها من ناحية أخرى، والتثبيت عليها من ناحية ثالثة.
وتبعًا لهذه الأهداف ترد قصص كثيرة من الأنبياء مجتمعة مكررة فيها طريقة الدعوة على نحو ما جاء في سورة هود:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ* فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ.) إلى أن يقول: (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ...) إلى أن يقول له: (... يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(20).
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ* يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ) إلى قوله: (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ)(21).
(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ* قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)(22).
ومثل هذه المواقف نجدها في سورة الشعراء أيضًا.
د ـ تصديق التبشير والتحذير، فقد بشر الله ـ سبحانه ـ عباده بالرحمة والمغفرة لمن أطاعه منهم، وحذّرهم من العذاب الأليم لمن عصاه منهم. ومن أجل إبراز هذه البشارة والتحذير بصورة حقيقية متمثلة في الخارج، عرض القرآن الكريم بعض الوقائع الخارجية التي تتمثل فيها البشارة والتحذير، فقد جاء في سورة الحجر التبشير والتحذير أوّلًا، ثمّ عرض النماذج الخارجية لذلك ثانيًا:
(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ)(23).
وتصديقًا لهذه أو تلك، جاءت القصص على النحو التالي:
(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ* قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)(24). وفي هذه القصّة تبدو الرحمة والبشارة.
ثمّ (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ* قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ* قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ* وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ* فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ* وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)(25)، وفي هذه القصّة تبدو (الرحمة) في جانب لوط، ويبدو (العذاب الأليم) في جانب قومه المهلكين.
ثمّ (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ* وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ* وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ* فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ* فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(26)، وفي هذه القصّة يبدو (العذاب الأليم) للمكذبين، وهكذا يصدق الأنباء ويبدو صدقه في هذه القصص الواقع بهذا الترتيب.
ه ـ بيان نعمة الله على أنبيائه، ورحمته بهم، وتفضله عليهم؛ وذلك توكيدًا لارتباطهم وصلتهم به؛ لأنّ القرآن أكّد هذا المفهوم في عدّة مواضع:
منها قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً)(27).
وقد جاءت بعض قصص الأنبياء لتأكيد هذا المفهوم، كبعض قصص سليمان وداود وإبراهيم ومريم وعيسى وزكريا ويونس وموسى.
ذلك أنّ الأنبياء يتعرضون ـ عادة ـ إلى مختلف ألوان الآلام والمحن والعذاب، وقد يتوهم السذج والبسطاء من الناس أنّ ذلك إعراض من الله ـ تعالى ـ عنهم ، فيأتي الحديث عن هذه النعم والألطاف الإلهيّة بهم تأكيدًا لعلاقة الله ـ سبحانه وتعالى ـ بهم، ولذلك نشاهد أنّ بعض الحلقات من قصص هؤلاء الأنبياء تبرز فيها النعمة في مواقف شتى، ويكون إبرازها هو الغرض الأوّل منها، وما سواه يأتي في هذا الموضوع عرضًا.
ومن مصاديق ذلك: ما أشرنا إليه سابقا ممّا ورد في سورة الأنبياء.
ومثال آخر على ذلك : ما ورد في القرآن الكريم من استعراض قصص الأنبياء وفي سورة مريم ، حيث يختم الاستعراض بقوله تعالى: (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا)(28).
و ـ بيان غواية الشيطان للإنسان، وعداوته الأبدية له، وتربصه به الدوائر والفرص، وتنبه بني آدم لهذا الموقف المعين منه، ولا شك أنّ إبراز هذه المعاني والعلاقات بواسطة القصّة يكون أوضح وأدعى للحذر والالتفات؛ لذا نجد قصّة آدم تتكرر بأساليب مختلفة تأكيدا لهذا الغرض، بل يكاد أن يكون هذا الغرض هو الهدف الرئيس لقصّة آدم كلها.
ز ـ بيان الغايات والأهداف من إرسال الرسل والأنبياء وأنّ ذلك إنّما هو من أجل إبلاغ رسالات الله، وهداية الناس، وإرشادهم وتزكيتهم، وحل الاختلافات، والحكم بالعدل بينهم، ومحاربة الفساد في الأرض، وفوق ذلك كلّه هو إقامة الحجة على الناس، ولذا جاء استعراض قصص الأنبياء بشكل واسع لبيان هذه الحقائق.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الهدف من القصّة في عدة مواضع:
(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ...)(29).
وقوله تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(30).
وقوله تعالى: (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(31).
فإنّها وردت في سياق قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)(32).
وقوله تعالى: (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً* وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً)(33).
وكذلك ما ورد في تعقيب قصص الأنبياء من سورة الشعراء من قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(34).
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع في بحث أغراض القصّة ما كتبه سيد قطب في كتابه التصوير الفني في القرآن: 120 ـ 141، وما سجّله السيد رشيد رضا في مواضع مختلفة في كتابه: تفسير المنار.
(2) يوسف : 3.
(3) يوسف : 102.
(4) القصص : 44 ـ 46.
(5) آل عمران : 44.
(6) سورة ص : 67 ـ 70.
(7) هود : 49.
(8) النحل : 36.
(9) النحل : 89.
(10) المائدة : 44.
(11) البيّنة : 51.
(12) المائدة : 48.
(13) الأحقاف : 9 ، راجع ـ أيضًا ـ الآيات 43 ـ 50.
(14) الأنبياء : 48 ـ 53 و 70 ـ 92.
(15) الأعراف : 59 و 65 و 85.
(16) آل عمران : 146.
(17) الانعام : 112.
(18) الزخرف : 6 ـ 7.
(19) إبراهيم : 9.
(20) هود : 25 ـ 27 و 29 و 32.
(21) هود : 50 ـ 51 و 53 ـ 55.
(22) هود : 61 ـ 62.
(23) الحجر : 49 ـ 50.
(24) الحجر : 51 ـ 53.
(25) الحجر : 61 ـ 66.
(26) الحجر : 80 ـ 84.
(27) النساء : 69.
(28) مريم : 58.
(29) البقرة : 213.
(30) النساء : 165.
(31) الانعام : 48.
(32) الانعام : 42.
(33) الكهف : 55 ـ 56.
(34) الشعراء : 8 ـ 9.
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة
اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
لا يدرك الخير إلّا بالجدّ
الوصول إلى حالة الانغماس وقياس مستواها
هل يمكن إثبات المعجزة علميًّا؟ (2)
أزمة العلمانية مع الإسلام
تفسير القرآن الكريم بمعناه اللّغوي
البسملة