اتخذت المباحث الصوتية عند العرب القرآن أساساً لتطلعاتها، وآياته مضماراً لاستلهام نتائجها، وهي حينما تمازج بين الأصوات واللغة، وتقارب بين اللغة والفكر، فإنما تتجه بطبيعتها التفكيرية لرصد تلك الأبعاد مسخّرة لخدمة القرآن الكريم، فالقرآن كتاب هداية وتشريع لا شك في هذا، ولكنه من جانب لغوي كتاب العربية الخالد، يحرس لسانها، ويقوّم أود بيانها، فهي محفوظة به، وهو محفوظ بالله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحفظون) (1).
لهذا بقيت العربية في ذروة عطائها الذي لا ينضب، وظلت إضاءتها في قمة ألقها الذي لا يخبو، فكم من لغة قد تدهورت وتعرضت لعوامل الانحطاط، وانحسرت أصالتها برطانة الدخيل المتحكم من اللغات الأخرى، فذابت وخمد شعاعها الهادي؛ إلا العربية فلها مدد من القرآن، ورافد من بحره المتدفق بالحياة، تحسه وكأنك تلمسه، وتعقله وكأنك تبصره، فهو حقيقة مستطيلة لا تجحد، مسك القرآن باللسان العربي عن الانزلاق، وأفعم التزود اللغوي عن الارتياد في لغات متماثلة، حتى عاد اللسان متمرساً على الإبداع، والتزود سبيلاً للثقافات الفياضة، لا يحتاج إلى لغة ما، بل تحتاجه كل لغة.
ورصد أية ظاهرة لغوية يعني العناية باللغة ذاتها، ويتوجه إلى ترصين دعائمها من الأصل، لأن الأصوات بانضمام بعضها إلى بعض تشكل مفردات تلك اللغة، والمفردات وحدها تمثل معجمها، وبتأليفها تمثل الكلام في تلك اللغة، والقدرة على تناسق هذا الكلام وتآلفه، من مهمة الأصوات في تناسقها وتآلفها، وتنافر الكلمات وتهافتها قد يعود على الأصوات في قرب مخارجها أو تباعدها، أو في طبيعة تركيبها وتماسها، أو من تداخل مقاطعها وتضامهّا، ذلك أن اللغة أصوات. «ومصدر الصوت الإنساني في معظم الأحيان هو الحنجرة، أوبعبارة أدق: الوتران الصوتيان فيها، فاهتزازات هذين الوترين هي التي تنطلق من الفم أو الأنف ثم تنتقل خلال الهواء الخارجي» (2).
ولغتنا العربية كبقية لغات العالم؛ عبارة عن أصوات متآلفة تنطلق من الوترين الصوتيين لتأخذ طريقها إلى الخارج. بيد أن العربية سميت باسم صوت متميز بين الأصوات فعاد معلماً لها، ومؤشراً عليها، فقيل: لغة الضاد. ومع أن ابن فارس (ت : 395 هـ) يقول:
«ومما اختصت به لغة العرب الحاء والظاء» (3). إلا أن الضاد يبقى صوتاً صارخاً في العربية لا مشابه له في اللغات العالمية، بل وحتى في اللغات السامية القريبة الأصر من اللغة العربية، وكان لهذا الصوت نصيبه من الالتباس بصوت «الظاء» فكانت الإشارة منا في عمل مستقل إلى الاختلاف فيما بين الضاد والضاء حتى عند العرب انفسهم، وأن الالتباس بالضاد كان ناجماً عن مقاربتها للضاء في الآداء، وعدم تمييز هذين الصوتين حتى لدى العرب المتأخرين عن عصر القرآن (4).
ومن عجائب القرآن الأدائية، وضعه هذين الصوتين في سياق واحد، وبعرض مختلف، في مواضع عديدة من القرآن، ذلك من أجل الدربة الدقيقة على التلفظ بهما، والمران على استعمالهما منفصلين، بتفخيم الضاد وترقيق الضاء، قال تعالى: (... ولئن رجعت إلى ربى إنّ لي عنده للحسنى فلننبئنّ الّذين كفروا بما عملوا ولنذيقنّهم من عذاب غليظ * وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسّه الشّرّ) (5). فالظاء في (غليظ) والضاد في (أعرض) وفي (عريض) مما تواضع الأوئل على قراءته بكل دقة وتمحيص، وميزوا بذائقتهم الفطرية فيما بين الصوتين.
والحاء بالعربية تنطق «هاء» في بعض اللغات السامية، وكذلك صوتها في اللغات الأوروبية، فهما من مخرج واحد «ولولا هتة في الهاء لأشبهت الحاء لقرب مخرج الهاء من الحاء» (6).
ولعمق التوجه الصوتي في القرآن لدى التمييز بين المقاربات نجده يضعهما في سياق واحد في كثير من الآيات، من أجل السليقة العربية الخالصة، قال تعالى: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكفرين * وأذن من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر...) (7).
فالحاء من «فسيحوا» والهاء من «أشهر» في الآية الأولى إلى جنب الهاء من «الله ورسوله» والحاء من «الحج» في الآية الثانية، جاءت جميعها بسياق قرآني متناسق في هدف مشترك للتمييز بين الصوتين حيناً، وللحفاظ على خصائص العربية حيناً آخر، ولبيان اختلاطهما عند غير العربي المحض، فلا يستطيع أداء «الحاء» تأديته «الهاء» إذ قد يلتبسان عليه، وهو جانب فني حرص القرآن على كشفه بعيداً عن الغرض الديني إلا في وجوب أداء القرآن قراءة كما نزل عربياً مبيناً.
لهذا نرى أن القرآن هو القاعدة الصلبة للنطق العربي الصحيح لجملة أصوات اللغة، ولا سيما الضاد والظاء أو الحاء والهاء، في التمرس عليهما والتفريق الدقيق بينهما.
ولقد كان سليماً جداً ما توصل إليه صديقنا المفضل الدكتور أحمد مطلوب عضو المجمع العلمي العراقي بقوله: «إن من أهم خصائص العربية ثبات أصوات الحروف فيها، لأن جوهر الصوت العربي بقي واضحاً، وهو ما يتمثل في قراءة القرآن الكريم وإخراج الحروف الصامتة إخراجاً يكاد يكون واحداً» (8). لأن اللغة العربية تستمد أصولها من القرآن، بل تبقى أصولها ثابتة في القرآن، وأولويات هذه الأصول هي الأصوات لأن الأصوات أصل اللغات.
ولا غرابة بعد هذا أن يكون استقراء ملامح الظاهرة الصوتية في التراث العربي الإسلامي يوصلنا إلى أن القرآن الكريم هو المنطلق الأساس فيها، وأنه قد نبه بتأكيد بالغ على مهمة الصوت اللغوي في إثارة الإحساس الوجداني عند العرب، وإيقاظ الضمائر الإنسانية للتوجه نحوه لدى استعماله الحروف الهجائية المقطعة في جمهرة من فواتح السور القرآنية، وفي أسرار فواصل الآيات، وفي قيم الأداء القرآني، وفي الدلالة الصوتية للألفاظ في القرآن..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحجر : 9.
(2) إبراهيم أنيس ، الأصوات اللغوية : 8.
(3) ابن فارس ، الصاحبي في فقه اللغة : 100.
(4) المؤلف ، منهج البحث الصوتي عند العرب : بحث.
(5) حم السجدة ( فصلت ) : 50 ـ 51.
(6) الخليل ، كتاب العين : 1|57.
(7) التوبة : 2ـ 3.
(8) أحمد مطلوب ، بحوث لغوية : 27.
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد عادل العلوي
الشيخ محمد صنقور
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ جعفر السبحاني
السيد جعفر مرتضى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ حسين الخشن
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
التعددية الدينية
زيادة الذاكرة
الضمائر في سورة الشمس
متى وكيف تستخدم الميلاتونين المنوم ليساعدك على النوم؟
تراتيل الفجر، تزفّ حافظَينِ للقرآن الكريم
في رحاب العيد
لنبدأ انطلاقة جديدة مع الله
المنطقة تحتفل بعيد الفطر، صلاة ودعاء وأضواء وتواصل
من أعمال وداع شهر رمضان المبارك
العيد الامتحان الصعب للحمية