نعم، المصدر اللّغوي يحتاجه المفسر لرفع التدافع في الألفاظ المشتركة، أو المختلفة الدلالة، أو الغريبة مما ألّف به العلماء في الغريب، أو مما لم يؤلف استعماله، أو من جهة النقل المنقلب، وهكذا... وفيها كلها شواهد من القرآن الكريم، فالأول: كقوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ «1».
قيل: أقبل، وقيل: أدبر.
والقروء في قوله تعالى: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «2».
فالقرء مشترك بين الطهر والحيض. والصريم، في قوله تعالى: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ «3» قيل: معناه كالنهار مبيضة لا شيء فيها، وقيل: كالليل مظلمة لا شيء فيها «4»، والغريب، كقوله تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ «5» والنقل المنقلب، كقوله تعالى: وَطُورِ سِينِينَ «6» أي طور سينا.
وما لم يؤلف استعماله كقوله تعالى: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ «7» بمعنى يسمع، ولا يستعمل الآن ألقيت سمعي.
لهذا كان ما قرره أبو حيّان الأندلسي (ت : 754 ه) أمرًا بديهيًّا حينما يقول:
«ومن أحاط بمعرفة مدلول الكلمة وأحكامها قبل التركيب، وعلم كيفية تركيبها في تلك اللغة، وارتقى إلى تمييز حسن تركيبها وقبحه، فلن يحتاج في فهم، ما تركب من تلك الألفاظ إلى مفهم ومعلم» «8».
وهو يؤكد على المصادر اللغوية ومعرفة أحكام الكلم، وكون اللفظ أو التركيب أحسن وأفصح، ويرجح الرجوع في معرفة علم اللغة، ومعاني الحروف، وفروع الكلمة تيسيرًا لفهم القرآن الكريم إلى ابن سيدة والأزهري، والفراء، والجوهري، وأبي علي القالي والصاغاني وثعلب.
كما يستحسن الرجوع إلى دواوين العرب، لا سيما مشاهير الشعراء، كالشعراء الستة: امرئ القيس، والنابغة، وعلقمة، وزهير، وطرفة، وعنترة ممن يستدل بشعرهم على معرفة معنى اللفظ، كما يجب الرجوع إلى علم المعاني والبيان والبديع، ويرجح منها كتابي: محمد بن سليمان النقيب، وحازم القرطاجني، ويختم هذا التأكيد اللغوي بقوله: «ولا ينبغي أن يقدم على تفسير كتاب اللّه إلّا من أحاط بجملة من غالبها من كل وجه منها، ومع ذلك فإنه لا يرقى من علم التفسير ذروته، ولا يمتطي صهوته، إلا من كان متبحرًا في علم اللسان، مترقيًا منه إلى مرتبة الإحسان» «9».
ويضع الزمخشري (ت : 538 ه) علم البلاغة في ذروة الإحاطة اللغوية، فيعتبر علم المعاني وعلم البيان: الأصل القويم في معرفة التفسير لكتاب اللّه، فالفقيه وإن تقدم، والمتكلم وإن بزّ أهل الدنيا، والواعظ مهما بلغ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن تفوق، لا يصل أحد من أولئك إلى حقائق التفسير «إلّا رجل قد برع في علمين مختصّين بالقرآن، وهما علم المعاني وعلم البيان، وتمهّل في ارتيادهما آونة، ونصب في التنقير عنهما أزمنة» «10».
واشتراط الزمخشري لعلم البلاغة يبدو وجيها حينما نلحظ أن المعنى اللغوي والجمود عليه وحده قد لا يؤدي المعنى التام ما لم يضمّ إليه الفهم البلاغي للنص ودلالته عليه، فقد يدلّ الظاهر اللغوي منه على معنى، إلا أنه يعود ناقصًا بالنسبة لواقع المعنى الحقيقي، لذلك يحترز بالبلاغة عن هذا النقصان، ويستعاض بها لاستجلاء الحقائق.
ومما يؤيده قول الزركشي: «ومن أحاط بمظاهر التفسير، وهو معنى الألفاظ في اللغة، لم يكف ذلك في فهم حقائق المعاني، ومثاله قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «11» فظاهر تفسيره واضح، وحقيقة معناه غامضة، فإنه إثبات للرمي ونفي له، وهما متضادّان في الظاهر ما لم يفهم أنه رمى من وجه ولم يرم من وجه، ومن الوجه الذي لم يرم ما رماه اللّه عز وجل» «12».
وهذا يجرنا إلى دلالة الألفاظ لدى إطلاقها في القرآن الكريم عند الاستعمال، وهو بحث تناوله الأصوليون بشيء من التفصيل المكثف، وسأحاول تلخيص رأي سيدنا الأستاذ السيستاني دام ظله الوارف:
إن إطلاق اللفظ مع القصد لمعناه على نوعين:
1 - كون المعنى متعددًا، سواء أكانا حقيقيين أم مجازيين أم مختلفين.
2 - كون المعنى المستعمل فيه واحدًا لكن المراد الجدّي متعدد، وذلك في المجاز بناء على كون المجاز عبارة عن عدم تطابق المراد الاستعمالي مع المراد الجدّي، ومورد البحث هو إطلاق اللفظ مع إرادة عدة معان، وإطلاقه مع إرادة المعنى الواحد وهذا الأخير مما لا كلام فيه، لأنه الأصل وهو الاستعمال الحقيقي الكاشف عن المراد، ولكن الكلام حول إطلاق اللفظ في القرآن وإرادة عدة معان منه كما هو الحال في الوحدة الحقيقية، وتعني إرادة الجامع المنطبق على المعاني انطباق الكلي على أفراده، فقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «13» قد استعمل فيه لفظ الصلاة في الجامع بين صلاة اللّه وصلاة الملائكة وهو العطف، لا أن المستعمل فيه متعدد، فقد قال المفسرون بأن صلاة اللّه هي رحمته، وأن صلاة الملائكة هي استغفارهم.
وقد يستعمل اللفظ الواحد بمعنى من المعاني، لكن كيفيته تختلف باختلاف المكلفين أو الكائنات كما هو ظاهر في قوله تعالى: اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ «14». فالمستعمل فيه لفظ السجود وهو بمعنى الخضوع، وإن كان كل خضوع بحسبه، لا أن المستعمل فيه متعدد باعتبار أن سجود الملائكة هو الخشوع، وسود البشر وضع الجبهة على الأرض، وسجود الشمس انقيادها التكويني لأمر الخالق، وكذا القمر والنجوم «15».
ومن خلال رأي الزمخشري والزركشي والسيستاني يبرز دور البلاغة العربية في رصد المراد بألفاظ القرآن الكريم حقيقة ومجاًزا ودلالة، انفرادية في الاستعمال أو مجموعة إلى ما سواها من قرائن الأحوال، وصياغة البيان، ودلالة الالفاظ.
ويبدو مما سلف أن المصدر اللغوي يمثل الأصالة الفكرية التي تقوم وتبرمج المناخ التفسيري على أساس من اللغة والفن والبلاغة. وبإلغاء هذا المصدر يبقى التفسير جامدًا، والفكر خاملًا، وإذا حدث هذا أصبحت العملية التفسيرية لا روح فيها ولا طعم لها، ونحن نريد للتفسير أن يتأطر بإطار الخلق والإبداع، لا أن يتسم بطابع الخمول والجمود.
إن المناظرة الفنية، والجهد اللغوي، والملحظ البلاغي، يؤصلان كل نصّ مهما كانت هويته وقيمته، والقرآن الكريم هو أرقى النصوص على الإطلاق، فنتج من هذا: أن تتضافر مجموعة الفنون التقويمية لإبراز دور كتاب العربية الأكبر في خلق الحضارة، ودعم التراث، ومواكبة الحياة، وإنقاذ المسلمين، ولـمّا كان المصدر اللغوي أحد الطرق المؤدية إلى ذلك، أصبح بالضرورة الإفادة منه على أتمّ وجه، لأنه يعنى بلغة القرآن وأسلوبه وجماله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التكوير : 17.
(2) البقرة : 228.
(3) القلم : 20.
(4) الزركشي ، البرهان : 2 / 209.
(5) البقرة : 232.
(6) التين : 2.
(7) ق : 37.
(8) أبو حيّان ، البحر المحيط : 1 / 5.
(9) المصدر نفسه : 1 / 6 وما بعدها.
(10) الزمخشري ، الكشاف : 1 / 16.
(11) سورة الأنفال : 17.
(12) الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : 2 / 155 وما بعدها.
(13) سورة الأحزاب : 56 .
(14) سورة الحج : 18 .
(15) علي الحسيني السيستاني ، الرافد في علم الأصول : 186 وما بعدها.
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
عدنان الحاجي
حيدر حب الله
الشهيد مرتضى مطهري
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ فوزي آل سيف
السيد عباس نور الدين
الشيخ حسين الخشن
السيد جعفر مرتضى
حسين حسن آل جامع
عبدالله طاهر المعيبد
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
كيف أكون محبًّا لله؟
وظيفتنا في أمر الظهور
المعارضة الميكانيكيّة
الصلاة في الإسلام وتأثيراتها التجديدية فيزيولوجيًّا ونفسيًّا
آيات النجوى في سورة المجادلة
كريمة البيت الفاطميّ
كريمة أهل البيت
الذّخر النّافع في رثاء أهل بيت النّبيّ الشّافع
كيف يعقل الاعتماد على الحواس في إثبات وجود الله تعالى؟!
حقيقة الانتظار في العمل على التمهيد