قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

معنى الإمامة في قوله تعالى: (إني جاعلك للناس إماماً)؟

لعلّ أبرز التفاسير المحتملة في هذا الصدد ثلاثة:

 

التفسير الأوّل: وهو التفسير الذي اختاره جمعٌ من علماء أهل السّنّة، ويذهبون فيه إلى أنّ الإمامة التي تتحدّث عنها الآية الكريمة هي مقام النّبوّة، وأنّ هذه الآية نزلت تبيّن كيف صار إبراهيم نبيّاً من الأنبياء، ومن ثم فلا علاقة لها إطلاقاً بشيءٍ إضافي اسمه الإمامة؛ لأنّ النبوّة هي في حدّ نفسها إمامةٌ للنّاس.

 

التفسير الثاني: وهو الذي طرحه مشهور علماء الإماميّة، حيث يذهبون إلى أنّ الآية الكريمة تتحدّث عن أواخر حياة إبراهيم، أي بعد أن كان نبيّاً بفترةٍ طويلة، وأنّ الابتلاءات التي تحدّثت عنها الآية الشريفة هي تلك المسيرة الطويلة من التحدّيات التي واجهت إبراهيم (ع) بعد أن بعث نبيّاً، كقصّة أمره بذبح ولده، وقصّة وضع أهله في بلد غير ذي زرع وغير ذلك، وهذا معناه أنّ إبراهيم الخليل قد حظي بمقام أعلى من مقام النبوّة الذي كان عنده قبل هذه المرحلة، وأنّ هذا المقام هو مقام الإمامة، ممّا يشير إلى أنّ الإمامة لها مقام أرفع من مقام النبوّة.

 

والآية الكريمة حيث نفت شمول هذا العهد الإلهي ـ الذي هو الإمامة ـ للظالمين، وكلُّ معصيةٍ ظلمٌ، فهذا يعني أنّ مقام الإمامة لا ينالها عاصٍ، فلابد من فرضه معصوماً؛ لأنّ العصمة هي عدم الوقوع في الذنب، وإذا صدق عنوان الظالم لنفسه على من وقع في الظلم ولو انقضى العصيان منه بعد ذلك ـ بناء على بعض النظريّات في مباحث المشتقّ من علم أصول الفقه ـ فهذا معناه أنّه يجب أن يكون الإمام غير عاصٍ في أيّ لحظة من لحظات حياته.

 

وبهذا يتمّ من خلال هذه الآية الكريمة استنتاج كلٍّ من: نفس الإمامة، وكونها مقاماً أعلى من مقام النبوّة، واشتراط كون الإمام معصوماً عن الذنب، وهي ثلاثة أمور أساسية في المذهب الإمامي تثبتها هذه الآية المباركة، ولا أقلّ من الأوّل والثالث منها.

 

ويدعم هذا التفسير للآية الكريمة بعض الروايات الدالّة عليه أو المفيدة أو المشيرة له، مثل خبر درست بن أبي منصور، عنه، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: (الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات... وقد كان إبراهيم ـ عليه السلام ـ نبيّاً وليس بإمام، حتى قال الله: إني جاعلك للناس إماماً قال: ومن ذريتي، فقال الله: لا ينال عهدي الظالمين. من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماماً) (الكافي 1: 174 ـ 175)، وغير ذلك من الروايات والأحاديث المرويّة التي يمكن مراجعتها في كتب الحديث والتفسير.

 

التفسير الثالث: إنّ الآية لا تدلّ على ما ذكره التفسير السنّي، ولا على ما ذكره التفسير الشيعي، بل غايتها أنّ إبراهيم كان نبيّاً، وأنّه في فترةٍ ما من عمره أراد الله أن يجعله إماماً، والمراد بالإمامة هنا هو معناها اللغوي، أي يجعله إماماً على الناس وزعيماً عليهم، فكأنّه يقول له ما قاله لسليمان من أنّه بعد أن آتيتك النبوّة سأستجيب لك بأن أجعلك ملكاً على الناس، فهناك أنبياء عاشوا وماتوا منبوذين ومظلومين، وهناك أنبياء حظوا في الدنيا بمقام الرئاسة على الناس، كما هي الحال مع النبي داوود والنبي سليمان والنبي محمد عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام، فكما جعل الله داوود خليفة في الأرض بعد أن كان نبيّاً، وكان معنى خلافته أنّه سيملك الرئاسة والإمرة واتّباع الجماهير له والانقياد المجتمعي له، كذلك الحال في إبراهيم النبي، فمقام الإمامة هنا ثابت، لكنّه لا يفيد أنّه أعلى من مقام النبوّة، ولا يعني مقام الإمامة بذاك المعنى العقدي عند الشيعة، بل بالمعنى اللغوي العادي، كما هي الحال مع داوود النبي الذي جعل خليفة في الأرض بعد أن كان نبيّاً فصار يحكم بين الناس بالعدل كما دلّت الآية الكريمة: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (ص: 26).

 

وعندما نربط الظلم بمقام الرئاسة والإمامة والخلافة بهذا المعنى، فإنّ العرب تفهم من ذلك الظلمَ مقابل العدل بين الناس، فإذا قلت: إمام المسلمين ظالم، فإنّ المعنى المنصرف عرفاً هو ظلمه للرعيّة، لا أنّه ظالم لنفسه بفعل معصيةٍ ما، كالنظر غير الحلال أو الغيبة، ويكون معنى الآية الكريمة كالتالي: يا إبراهيم، لقد كنت نبيّاً وابتُليت وصبرت ونجحت، وسوف يمنّ الله عليك بأن يرفع مقامكم بين الناس، فيتّبعوك وينصاعوا لك، وتكون لك ـ عملاً وتكويناً ـ الإمرة الشرعيّة عليهم والنفوذ والمرجعيّة، فقال إبراهيم: وهل يكون ذلك لأحد من ذريّتي؟ فقال له الله: نعم، إنّني أعطي الإمامة الشرعيّة لمن لا يكون ظالماً للناس، بل يكون عادلاً. ومعه فتدلّ الآية على اشتراط العدل في شرعيّة حكومة وحاكمية إمام المسلمين.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد