قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

نظم القرآن البديع (1)

النظم: رصانة البيان واستحكام التأليف

 

تعريف النظم

 

النظم هو لجام الألفاظ، وزمام المعاني، وبه تنتظم أجزاء الكلام ويلتئم بعضها ببعض، فتقوم له صورة في النفس، يتشكل بها البيان. والنَّظْمُ هو وضع كلِّ لفظ في موضعه اللائق به، بحيث لو أُبدل مكانه غيره ، ترتب عليه إمّا تبدل المعنى، أو ذهاب رونقه وسقوط البلاغة معه. والنظم هو رعاية قوانين اللغة وقواعدها، على وجه لا يكون الكلام خارجاً عمّا هو المرسوم بين أهل اللغة.

 

هذه تعاريف ثلاثة للنظم، غير أنّ المقصود منه هنا هو تماسك الكلمات والجمل، ووضع كل كلمة مكانها. وأمّا رعاية القوانين، فهي وإنّ كانت دخيلة، في تحقق النظم ـ فإنّ الكلام الخارج عن إطارها متخلخل ـ غير أنّ القرآن أرفع شأناً من أن يعرض على القواعد، بل هي تعرض عليه، كما تقدم. ولأجل ذلك نركّز في النظم على الأمرين الأولين، الانسجام أولاً، ووضع كل كلمة مكانها، ثانياً.

 

وقد أعطى الشيخ عبد القاهر الجرجاني للنظم القسط الأوفر من إعجاز القرآن، بل جعله السبب الوحيد فيه، وقال بعد ردّ كل ما يمكن أن يكون وجهاً للإعجاز: "فلم يَبْقَ إلاّ النظم، وليس هو شيئاً غير توخي معاني النحو، وأحكامه. وإنّا إن بقينا الدهر نُجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكاً ينظمها، وجامعاً يجمع شملها، ويؤلفها، ويجعل بعضها بسبب من بعض، غير توفّي معاني النحو وأحكامه فيها، طلبنا ما كلُّ محال دونه" (1).

 

وكلامه هذا لا ينافي ما ذكرناه، لأنّه يرمي إلى أنّ الانجسام التامّ بين جمل الآية حصل في ظل تحقيق هذه القواعد ورعايتها فيها. وقال الزملكاني: "إنّ وجه الإعجاز يرجع إلى التأليف الخاص به، بأن اعتدلت مفرداته تركيباً وزِنَةً، وعلت مركباته معنىً، بأن يوقع كل فن في مرتبته العليا في اللفظ والمعنى" (2).

 

ثم ليعلم أنّ الكلام يقوم على ثلاثة أشياء: (لفظ حامل. معنى قائم باللفظ . ورباط لهما). وهذه الأمور الثلاثة توجد في القرآن على الوجه الأحسن، فالألفاظ عذبة (الدعامة الأولى)، والمعاني سامية وراقية (الدعامة الثانية)، والكلمات والجمل مترابطة ومتلاحمة أشدّ التلاحم والتشاكل، وهذه هي الدعامة الثالثة الّتي نبحث فيها.

 

ونحن نبحث في تبيين النظم القرآني في مقامين: الأول: انسجام الجمل والكلمات، وتعانقها. الثاني: وضع كل كلمة موضعها.

 

تجاذب الكلمات وتعانق الجمل

 

إنّ القرآن بلغ من ترابط أجزائه، وتماسك كلماته وجمله وآياته، مبلغاً لا يدانيه فيه أي كلام آخر، مع طول نَفَسه، وتنوع مقاصده، وافتنانه وتلوينه في الموضوع الواحد. وآية ذلك أنّك إذا تأمّلت في القرآن الكريم، وجدت منه جسماً كاملاً، تربط الأعصاب والأغشية بين أجزائه، ولمحت فيه روحاً عاماً يبعث الحياة، والحسن، على تشابك وتساند بين أعضائه.

 

فبين كلمات الجملة الواحدة من التآخي والتناسق ما جعلها رائعة التجانس والتجاذب. وبين جمل السورة الواحدة من التشابك والترابط ما جعلها وحدة متآخذة الأجزاء، متعانقة الآيات. ولأجل ذلك يقول سبحانه: ﴿قُرآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَج﴾ (الزمر:28).

 

والآيات القرآنية، وإن كانت كلّها مظاهر لهذا الانسجام، كما يلاحظه التالي لها، غير أنا نختار من بينها آية تشع نوراً بين الآيات في حسن الإنسجام وروعة النظم، كأنها سبيكة واحدة، مع طولها، وكثرة جملها، وغزارة معانيها. يقول سبحانه: ﴿اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيء مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ (البقرة:255).

 

وبما أنّ مسألة الترابط والتآخي في الآيات القرآنية واضحة لمن أمعن فيها، فلذلك نطوي الكلام عن الإكثار فيها، ونعطف نظر الباحث إلى نمط خاص من النظم:

 

نمط خاص من النظم في بعضّ الآيات

 

إنّ الأهرام الّتي أقامها فراعنة مصر، فكانت إحدى عجائب الدنيا، قد بنيت حجراً على حجر دون أن تتماسك أحجارها بأيّة مادة غريبة دخلت بينها، وإنمّا كان تماسكها تماسكاً ذاتياً، وتجاذباً أحكمته هندسة البناء، فاستدعى الحجر صاحبه إليه، واعتنقه في تآلف وترابط. وإنّه بقدر ما كان بين هذه الأحجار من روابط ذاتية، بقدر ما يكون لها من ثبات وروعة على الزمن، ولكنها مع هذا صنعة إنسان، مقدور عليه الفناء، وإذن فلا خلود لها، لأنّ الفاني لا يخلق إلاّ فانياً.

 

فكان من إعجاز القرآن أن أقام أبنية من النظم الكلامي غير مستندة إلاّ على ما بينها من تناسق هندسي، وتجاذب روحي، وترابط الكلمات، وتعانق الآيات، أحكمه الحكيم العليم، وقدَّره اللطيف الخبير.

 

وإليك نماذج من هذا النوع من النظم

 

يقول سبحانه: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب﴾ (البقرة:1ـ3). هذه جمل أربع لم يتوسط فيها حروف العطف، حتى تعطف بعضها على بعض وتجعل منها كياناً واحداً. ومع ذلك نرى فيها من التلاحم والتناسق ما يجعلها تبدو جملة واحدة، بل كلمة واحدة.

 

يقول سبحانه: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبَان﴾(الرحمن:1- 5). فهذه الآيات تراها كأنّها جملة واحدة في اتّساقها وتجاذبها، وتعانقها لفظاً ومعنى. فإنّها تساوقت ألفاظها، وتناغمت حروفها في هذا النغم العُلْوي، كما تآخت معانيها وتناسبت فكانت نبعاً سماوياً يتدفق في تسلسل وترابط، لا ترى العين منه إلاّ كياناً واحداً من منبعه إلى مصبّه.

 

يقول سبحانه: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَاب وَاقِع * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِج﴾ (المعارج:1-3). فليس في هذه الآيات حرف عطف يجمع كلمة إلى كلمة، أو آية إلى آية. وهي مع هذا يسودها التلاحم والتآخي والتساند، يجذب بعضها بعضاً. فهناك سائل يسأل، وموضوعُ سؤاِلِه عذابٌ واقع، والذين وقع بهم العذاب هم الكافرون، وهو عذاب لا يدفع، لأنّه عذابٌ من الله ذي المعارج.

 

وضع كلّ كلمة في موضعها

 

إنّ لكل نوع من المعنى، نوعاً من اللفظ هو به أولى وأصلح، وضروباً من العبارة، هي بتأديته أقوم، ومأخذاً إذا أُخذ منه كان إلى الفهم أقرب وبالقبول أَلْيَقْ، وكان السمع له أوعى، والنفس إليه أميل.

 

إنّ لغة العرب ألفاظاً متقاربة في المعاني، ربما يحسب غير المطّلع ترادفها، وتساويها في إفادة المقصود، كالعلم والمعرفة، والحمد والشكر، والبخل والشُّح، والقعود والجلوس، حتى بين الحروف كـ "بلى" و"نعم"، وغير ذلك من الأسماء والأفعال. فإنّ لكل لفظة منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها، وإن كانا يشتركان في بعضها.

 

وقد اهتمّ القرآن، باستعمال كل كلمة في موضعها بحيث لو أُزيلت الكلمة وأُقيمت مكانها ما يظن كونه مرادفاً لها، لفسد المعنى، وزال الرونق. ولأجل إيقاف الباحث على هذا النوع من النظم، نأتي بنماذج:

 

نرى أنّه سبحانه يأمر عبده بحمده، ويقول: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾ (الإسراء:111). وفي موضع آخر يأمر بالشُكر ويقول: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً﴾ (سبأ:13).

 

وما هذا إلاّ لأنّ الحمد هو الثناء على الجميل، والشكر هو الثناء في مقابل المعروف، فالحمد ضد الذم، والشكر ضد الكفران. وبما أنّه سبحانه يصف نفسه في الآية الأولى، بقوله: "الّذي لم يتخذ ولد"، فناسب الأمر بالحمد. وبما أنّه يذكر معروفه وإحسانه على آل داود في الآية الثانية، ناسب الأمر بالشكر على المعروف.

 

نرى أنّه سبحانه يستعمل كلمة السهو تارة بلفظة "في"، ويقول: ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * اَلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَة سَاهُون﴾ (الذاريات:10-11). وأخرى بلفظة "عن" ويقول: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ﴾ (الماعون:4-5).

 

وما هذا إلاّ لأنّ المراد من الآية الأولى أنّ الغفلة تعلوهم وتغمرهم، وأنّهم في ضلالتهم متمادون، فناسب لفظة "في" الدالّة على الظرفية. ولكن المراد من الاّية الثانية هو السهو عن نفس الصلاة وعدم الإتيان بها في مواقيتها فناسب لفظة "عن"، ولو كان المراد السهو في نفس الصلاة، كأن لا يدري المصلي أنّه في شفع أو وتر، لقال "في صلاتهم".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- دلائل الإعجاز، ص 300. وثلاث رسائل، الرسالة الشافية لعبد القاهر الجرجاني، ص 184.

2- الإتّقان في علوم القرآن ج 4، ص 8.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد