
حقوق الرعية على الحاكم تستمد معناها من طبيعة الحكم الذي يمارسه الحاكم. فهناك حكم يقوم لأجل عائلة من العائلات الكبيرة وحينئذ يعمل الحاكم لأجل هذه العائلة، ويسخر جميع مرافق الدولة لها ولمن يقوم عليه سلطانها.
وهناك حكم يقوم لصالح طبقة من الطبقات وحينئذ يعمل الحاكم لأجل هذه الطبقة، ولا ينيل الرعية شيئًا إلا إذا كان فيه ما يعود بالخير على هاتيك الطبقة التي يقوم من أجلها الحكم.
ومرة يقوم الحكم من أجل الرعية وحدها، وحينئذ يعمل الحاكم للرعية وحدها. وفي هذا اللون من الحكم توجد للرعية على الحاكم حقوق يصح أن نتحدث عنها.
فأي لون من ألوان الحكم بشر به نهج البلاغة، ووضع قواعده الإمام علي (ع) ؟ إذا رجعنا إلى نهج البلاغة وجدنا أن الحكم الذي كان يمارسه الإمام عليه السلام والذي كان يحمل عماله على أن يمارسوه هو هذا الحكم الذي يقوم من أجل الرعية وحدها.
.... فالإمام (ع) في عهده العظيم إلى مالك الأشتر قد وضع الأسس المتينة لإنشاء جهاز حكم يعمل للشعب وللشعب فقط، غير ملق بالاً إلى منافع طبقة خاصة تسعد على حساب الشعب وتنعم بجهوده....
من ضرورات الحكم الصالح المشاركة الوجدانية بين الراعي والرعية، إذ بها يستطيع الحاكم أن يتعرف على آمال المحكومين وآلامهم ومطامحهم، وأن يعي حاجاتهم ومخاوفهم، فيعمل لخيرهم ويضع كل شئ مما يصلحهم موضعه.
ويشعرهم ذلك برعايته لهم، وحياطته لأمورهم، وعمله لصالحهم، فيدعمون حكمه بحبهم وإيثارهم له، ويؤازرونه في السراء والضراء على السواء. ولا يحصل شئ من هذا إذا ما أغلق الحاكم دونهم قلبه وأغمض عنهم عينه.
إنه حينذاك لا يعرف شيئًا من أمورهم ليعمل على الإصلاح، وتكون عاقبة ذلك أن يفقد حبه في قلوبهم، ويشعرون بأنه شيء غريب عنهم مفروض عليهم، كالحشرة الطفيلية التي تعيش على دماء الحيوان الذي تلتصق به.
قال عليه السلام: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم. فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل (1)، وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه).
ولكي تحصل هذه المشاركة الوجدانية ولكي تؤتي أكلها يجب على الوالي أن يخالط الرعية، وأن يمكنهم من مخالطته ومطالعته بما يريدون، لأن احتجابه عنهم سبب لجهله بأحوالهم، وسبب لانصراف قلوبهم عنه وتفاقم موجدتهم عليه.
قال عليه السلام: (فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور. والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل. وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب) (2).
ولكي يبقى ما بين الوالي ورعيته من وشائج الود، ويبقى ما للوالي في قلوب الرعية من جميل الأثر وحسن الظن، يجب عليه أن يبدد من أذهانهم كل ما يتوهمون فيه الظلم والحيف، فيبين لهم خطته ويشرح لهم نهجه ليؤيدوا سياسته عن قناعة بها وإيمان بصلاحها وجدواها.
ويجب عليه ألا يمن على رعيته بما يفعل، فإن منصبه يفرض عليه أن يخدمهم، ولو من عليهم لذهب جميل أثره من قلوبهم. وعليه أن يتجنب الكذب فيما يعطي من عهد، والتزيد فيما يصف من عمل، فإن الكذب داعية المقت، والتزيد أخو الكذب.
قال عليه السلام: (وإن ظنت الرعية بك حيفًا (3) فأصحر (4) لهم بعذرك، واعدل (5) عنك ظنونهم بإصحارك، فإن في ذلك رياضة (6) منك لنفسك، ورفقًا برعيتك، وإعذارًا (7) تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق).
وقال عليه السلام: (وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزيد (8) فيما كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت (9) عند الله والناس، قال الله تعالى: (كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (10).
والسبيل الأقوم الذي يؤدي إلى تأكيد حب الحكم في نفوس الرعية ويحملها على عضد والدفاع عنه هو ما أشار عليه السلام بقوله: (واعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عنهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم (11)، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن ويقطع نصبًا (12) طويلاً، وأن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك لمن ساء بلاؤك عنده) (13).
ولم كل هذا؟ لأن الحكم إنما أقيم لصالح الشعب، ولذلك فيجب أن يرعى مصالح الشعب، ويجب أن يستلهم في أعماله حاجات هذا الشعب. أما هذه الطبقة، طبقة الخاصة والنبلاء، التي تحسب أن كل شيء مسخر لها وما عليها إلا أن تدعو فتجاب وتأمر فتطاع، هذه الطبقة ليس لها في حكومة الإمام امتيازات، فهي وسائر الناس سواء، وعلى الحاكم، حين تتعدى حدودها وتطلب ما ليس لها، أن يردها إلى قصد السبيل.
قال عليه السلام: (أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك (14)، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته (15) وكان لله حربًا حتى ينزع (16) أو يتوب، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم (17) فإن الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد).
(وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف (18) برضا الخاصة وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف (19)، وأقل شكرًا عند الإعطاء وأبطأ عذرًا عند المنع، وأضعف صبرًا عند ملمات الدهر من أهل الخاصة. وإنما عماد الدين وجماع (20) المسلمين، والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك (21) لهم وميلك معهم ).
وهكذا حكم الإمام عليه السلام بأن الحكم إنما أقيم من أجل الشعب فيجب أن يبقى خالصًا للشعب وللشعب وحده. وإذا كان الحكم قد أقيم من أجل الشعب، فهذه الأموال التي تجبى منه لم تجب لتنفق على إرواء شهوات طائفة من الناس يومها دهرها، وبغيتها لذتها، وهي تتمتع بحياة فارغة لاهية، إنما جبي هذا المال من الشعب ليرد عليه في صورة خدمات عامة، ومؤسسات عامة، هذا هو مصرف أموال الدولة.
وأمير المؤمنين عليه السلام صريح في هذا فقد تكرر منه أمره إلى عماله بصيانة مال الأمة، وصرفه في موارده وعدم التفريط به. قال عليه السلام: (فانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك (22) من ذوي العيال والمجاعة مصيبًا به مواضع الفاقة ( 23) والخلات (24)، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا) (25).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يفرط منهم الزلل: يفرط: يسبق، الزلل: الخطأ.
(2) سمات: جمع سمة، وهي العلامة، أي ليس للحق علامات ظاهرة يتميز بها الصدق من الكذب، وإنما يعرف ذلك بالامتحان والتجربة.
(3) الحيف: الظلم.
(4) أصحر: أظهر، والإصحار: الإظهار. يعني إذا ظنت الرعية أنك كنت ظالـمًا في تصرف من التصرفات فاكشف عذرك لهم، وبين الأسباب الموجبة التي دعتك إلى اتخاذ ذلك الإجراء.
(5) اعدل، هنا، معناها: حول. أي أن إعلانك لتفسير موقفك يجعلهم يحولون ظنونهم واتهاماتهم لك بالظلم، عنك.
(6) رياضة: تعويدًا لنفسك على أن تكون عادلًا، وصريحًا.
(7) الإعذار: هو إعلان العذر والحجة.
(8) التزيد - كالتقيد إظهار الزيادة في الأعمال، وإظهارها بأكبر من حقيقتها في الواقع، فيكون من المفاخرة بالباطل والكذب.
(9) المقت: البغض.
(10) سورة الصف، الآية: 3، وقبلها (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ).
(11) قبلهم: عندهم.
(12) النصب: التعب.
(13) البلاء، هنا، الصنع مطلقًا، حسنًا كان أو سيئًا. أي أن من صنعت معه صنيعًا حسنًا يكون موضعًا لحسن ظنك به. ومن صنعت معه صنيعًا سيئًا يكون موضعًا لسوء ظنك به.
(14) من لك فيه هوى: تميل إليه أكثر من غيره من الناس.
(15) أدحض حجته: أبطل حجته.
(16) ينزع: يكف عن ظلمه.
(17) الإقامة على الظلم: الإصرار عليه، وعدم الرجوع عنه.
(18) يجحف: يذهب. أي أن سخط عامة الشعب لا ينفع معه رضا طبقة المترفين الأريستوقراطية. أما إذا رضيت عامة الشعب وسخط المترفون فلا يضر سخطهم مع رضى عامة الشعب.
(19) الإلحاف: الإلحاح والشدة في السؤال.
(20) أي جماعة الإسلام.
(21) صغوك: ميلك، فليكن ميلك إلى عامة الشعب لا إلى الخاصة المترفين.
(22) قبلك: عندك.
(23) الفاقة: الفقر.
(24) الخلات: الحاجات.
(25) نهج البلاغة، باب الكتب، رقم النص 67.
﴿حِطَّةٌ﴾ و﴿ رَاعِنَا﴾ الأصل اللّغوي والمعنى
الشيخ محمد صنقور
طبيعة الحكم عند الإمام علي (ع) وعلاقة الحاكم بالشّعب
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
تخفيضات الجمعة البيضاء من منظور علم النفس - كيف نقاوم إغراءاتها؟
عدنان الحاجي
الصمت حكمة وقليل فاعله
الشيخ محمد جواد مغنية
الأصول الثابتة والمتغيرة في القرآن الكريم
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الهداية والقدوة
الشيخ شفيق جرادي
أعظم طريقة لنشر القيم
السيد عباس نور الدين
معنى (قمر) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
ميتافيزيقا العلم الذكيّ (4)
محمود حيدر
ادرس خطتك قبل الانطلاق
عبدالعزيز آل زايد
السيدة الزهراء: وداع في عتمة الظلمات
حسين حسن آل جامع
واشٍ في صورة حفيد
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
﴿حِطَّةٌ﴾ و﴿ رَاعِنَا﴾ الأصل اللّغوي والمعنى
طبيعة الحكم عند الإمام علي (ع) وعلاقة الحاكم بالشّعب
تخفيضات الجمعة البيضاء من منظور علم النفس - كيف نقاوم إغراءاتها؟
مصر وأحداثها في عصر الظهور
سنّة العدل والحقّ من سنن التطور الاجتماعي في القرآن الكريم
منهج الزهراء عليه السلام في التربية
الصمت حكمة وقليل فاعله
الأصول الثابتة والمتغيرة في القرآن الكريم
جامعات تتبنى الذكاء الاصطناعي: هل سيصبح الطلبة أكثر ذكاءً أم سيتوقفون عن التفكير؟
الهداية والقدوة