كان «يوم المباهلة» في المدينة المنوّرة، في الرّابع والعشرين من ذي الحجّة عام 10 للهجرة النّبويّة -بحسب الطَّبري- تظهيراً للحقائق التّالية:
• الموقع العقائدي لأهل البيت عليهم السلام، الذي أَجمَع عليه المسلمون عبر القرون.
• أنَّ بقاء الإسلام مُرتبط بِمودَّتهم والتزام نَهْجهم عليهم السلام.
• أنَّ إمكانيّة الحوار بين الإسلام والمسيحيِّين أكبر بكثير من الحوار بين الإسلام واليهود، فالطّابع العامّ مع اليهود هو الصِّراع لاختلاف طبيعتهم عن النّصارى ﴿لتجدنّ أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى ذلك بأن منهم قسّيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون﴾ المائدة:82.
• ما يلي عرض لأجواء المباهلة مع نَصارى نَجران، وأهمّ دلالاتها.
ثلاث قوى كانت تتقاسم الجزيرة العربيّة عند بعثة النّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله، هي: كفّار قريش والعرب، اليهود، النّصارى.
وكان «فتح مكّة» إيذاناً بسقوط آخِر معاقَل الكفَّار واليهود، التي تَهاوَت في المواجهات الحامية ما بين معركة بدر ويوم فتح مكَّة، ولم تكن معركة هوازن التي عُرِفَت بحرب «حُنين» -على أهميّتها- إلَّا حَشْرَجَة الكُفْر المُحتضِر.
حَرصَ اليهود على ربط مصيرهم بمصير الكفّار، وتحالفوا معهم وأمدُّوهم بالسِّلاح والرِّجال، فكان لا بدّ من مواجهتهم وحَسْم الأمر معهم، في سياق مواجهة الإسلام لكفّار قريش وأحلافها.
أمّا النّصارى فلم يربطوا مصيرهم بمصير قريش وسائر الكافرين. كانوا يُتابعون سَيْر الأحداث -ما عدا محاولة أبي عامر الرّاهب ومسجد الضّرار- وكأنّهم على الحياد.
* نجران، أكبر حواضرهم
تقع مدينة نَجْران بين مكّة واليمن، وقد سُمِّيت باسم «نجران» حفيد «سبأ».
قال الحموي في (معجم البلدان): «نَجْران: بالفتح ثمّ السُّكون، وآخره نون، ".." بن زيدان بن سبأ بن يشجب بن يعرف بن قحطان لأنّه كان أوّل مَنْ عَمَرها ونزلها وهو المرعف، وإنّما صار إلى نجران لأنَّه رأى رؤيا فهالَتْهُ، فخرج رائداً حتى انتهى إلى وادٍ فنزل به فَسُمِّي (المكان) «نجران» به ".."». [أي باسمه].
أضاف الحموي: «".." «نجران» القرية العظيمة التي إليها إجماع تلك البلاد. كان أهل نجران يومئذٍ على دين العرب يعبدون نخلة لهم عظيمة بين أظهُرهم لها عيد في كلِّ سنة، فإذا كان ذلك العيد علَّقوا عليها كلّ ثَوْب حَسَن وَجَدوه وحليِّ النّساء ".."».
ثمّ اعتنقوا النّصرانيّة، وكانوا عند ظهور الإسلام يُمثِّلون الثِّقل النّصراني السِّياسي، والمرجعيّة الدِّينيّة للنّصارى في شبه الجزيرة العربيّة.
* أصحاب الأخدود
مِن أبرز المفاصل التي ينبغي الوقوف عندها لمعرفة الثِّقل الدِّيني والسِّياسي النّصراني الذي كانت تُمثِّله «نجران» أنَّ قصّة أصحاب الأخدود التي تحدَّث عنها القرآن الكريم كانت قد وَقَعت في نجران.
وسواء أكانت قصّة أصحاب الأخدود متكرِّرة -وفي مناطق مختلفة- كما يرى العلَّامة الطباطبائي في (تفسير الميزان)، أم أنّها كانت حادثة واحدة في مكان واحد، فالنّتيجة أنّ «نجران» قد شهدت حادثة تُعرَف بقصّة «أصحاب الأخدود».
قصّة «أصحاب الأُخدود» التي تحدَّث عنها
القرآن الكريم، كانت قد وَقَعت في نَجْران. في معرض حديثهما عن أهل نجران وانتقالهم من الشِّرك إلى النّصرانيّة، وانتشارها بينهم، أورد «الطَّبري» و«الحموي» رواية جاء فيها: «فَسار إليهم ذو نواس بجنوده فدعاهم إلى اليهوديّة وخيَّرهم بين ذلك والقتل فاختاروا القتل، فخدَّ لهم الأخدود، فحرَق مَن حرق في النار، وقتل من قتل بالسَّيف، ومثَّل بهم حتى قَتَل منهم قريباً من عشرين ألفاً، ففي ذي نواس وجنوده أنزل الله تعالى: ﴿قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود﴾ البروج:4-5.
* ملاذ الهاربين من مكّة
كانت «نجران» بِحُكم موقعها السِّياسي، والجغرافي، الملاذ الأبرز للهاربين من مكّة بعد الفتح، وبينهم مَنْ هُمْ مِنْ أشدِّ النّاس عداوة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله، وطبيعي أن يشكِّل هروب هؤلاء عاملاً إضافيّاً في اهتمام رسول الله صلّى الله عليه وآله بنجران وأهلها.
أورد «الطبري» في تاريخه: «لمّا دخل رسول الله صلّى الله عليه [وآله] مكّة هرب هُبيرة بن أبي وهب المخزومي وعبد الله بن الزِّبَعْرى السّهمي إلى نجران".." (فأمّا) ابن الزِّبَعْرى (فقد) رجع إلى رسول الله صلّى الله عليه [وآله] ".." وأمّا هبيرة بن أبي وهب فأقام بها كافراً ".."».
كان هبيرة المخزومي من كبار عُتاة فريش، وفرسانها المعدودين، وهو صهر أبي طالب على ابنته أم هانئ التي انفصلت عنه بالإسلام، وفيه يقول الشاعر:
ذاك منها هبيرة بن أبي وهْبٍ أقرَّت بفضله مخزومُ
كان في حربكم يعدُّ بألفٍ حين يلقى بها القرومَ القرومُ.
بل كان يُعتبَر قَرين عمرو بن ودّ، وكان معه في وقعة الأحزاب، وهرب عندما قَتَل أمير المؤمنين عليه السلام عمرواً.
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: «قال "هبيرة بن أبي وهب المخزومي"، يعتذر من فراره عن عليّ بن أبي طالب ، وتركه عمْرواً يوم الخندق ويبكيه:
لَعَمْرُك ما ولّيت ظهري محمّداً وأصحابه جُبناً، ولا خِيفةَ القتلِ
ولكنّني قلَّبت أمري فلم أجد لسيفي غَناءً إن وقفتُ، ولا نَبْلي
وقفتُ فلمّا لم أجد لي مَقْدَماً صَدَرْتُ كضرغام هِزَبْرٍ إلى شبلِ
ثنى عطفه عن قِرْنه حين لم يجد مجالاً، وكان الحزمُ والرأي من فعلي».
• وأمّا ابن الزِّبَعْرى، كما في (حلية الأبرار) وغيرها (بكسر الزاي وفتح الباء وسكون العين) عبد الله الشاعر بن قيس السّهمي القرشي، (فقد) كان من أشدّ المشركين على المسلمين وكان يؤذي النّبيّ صلى الله عليه وآله بيده ولسانه إلى أن فُتحت مكّة فهَرب إلى نجران، ومِن مظاهر شديد عداوته لرسول الله صلّى الله عليه وآله ما تُحدِّثنا به الرّواية التّالية:
فجاء أبو طالب وقد سلَّ سيفه، فلمّا رأوه جعلوا ينهضون، فقال أبو طالب: واللهِ لَئِن قام أحدٌ، جَلّلْتُه بسيفي.. • عن إبن عباس: «دخل النّبيّ صلّى الله عليه وآله الكعبة، وافتَتَح الصَّلاة، فقال أبو جهل: مَن يَقوم إلى هذا الرجل فيُفسِدُ عليه صلاته؟ فقام ابن الزِّبَعري وتناول فرثاً ودماً وأَلقى ذلك عليه، فجاء أبو طالب وقد سلَّ سيفه، فلمّا رأوه جعلوا ينهضون، فقال أبو طالب: والله لَئِن قام أحدٌ جلّلْتُه بِسَيفي، ثمّ قال (أبو طالب للنّبيّ صلىّ الله عليه وآله): يا ابن أخي، مَن الفاعل بك هذا؟ قال: عبد الله (أي ابن الزِّبَعْرى)، فأخذ أبو طالب فرثاً ودماً فألقى (ذلك) عليه».
وابن الزِّبَعْرى هذا هو صاحب القصيدة الشّهيرة التي تمثّل بها يزيد بن معاوية عليهما اللعنة -وأضاف إليها ما هو صريحٌ في كفره- حين دخول موكب السَّبايا إلى الشام، ومنها:
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل.
* مكاتبة الرَّسول صلّى الله عليه وآله لأهل نجران
يتَّضح مِمَّا تقدَّم أنّ «نجران» بِمَا كانت تُمثِّله آنذاك، وبحسب طبيعة الهاربين إليها، كانت مرشَّحة -بعد فتح مكّة- لقيادة الحرب على الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وآله، ومن الطَّبيعي في مثل ذلك أن تُبادر القوَّة المُنتصِرة على قريش في مكّة إلى شنِّ الحرب على نجران قبل أن تُبادر هي للحرب، إلَّا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله بادر إلى مُكاتبة أساقفة نجران يدعوهم إلى الإسلام، فكان جوابهم أن توجَّه وفدٌ كبيرٌ منهم إلى المدينة المنوَّرة.
أمّا بعد فإنَّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإنْ أَبَيْتُم فالجِزْية، وإنْ أَبَيْتُم فقد آذنْتُكُم بالحرب، والسَّلام.
قال السيوطي في (الدرّ المنثور): «وأخرج البيهقي في (الدَّلائل) ".." أنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان (أي قبل نزول البسملة): بسم الله إلهِ إبراهيم وإسحاق ويعقوب. مِن محمّد رسول الله إلى أُسقف نجران، وأهل نجران. إنْ أسْلَمْتُم فإنِّي أحمد إليكم الله إلهَ إبراهيم وإسحاق ويعقوب. أمّا بعد فإنِّي أَدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأَدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإنْ أَبَيْتُم فالجِزْية، وإنْ أَبَيْتُم فقد آذَنْتُكُم بالحرب، والسَّلام.
فلمَّا قرأ الأسقف الكتاب فظع به وذُعِر ذعراً شديداً، فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة، فدفع إليه كتاب النّبيّ صلّى الله عليه [وآله]، فقرأه، فقال له الأسقف: ما رأيك؟
فقال شرحبيل: قد علمتَ ما وَعَد الله إبراهيم في ذرِّيّة إسماعيل من النُّبوَّة، فما يؤمَن أن يكون هذا الرَّجل؟ ليس لي في النُّبوّة رأي. لو كان رأيٌ مِن أمر الدُّنيا أَشَرْتُ عليك فيه، وجَهدتُ لك.
فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران، فكلُّهم قال مثل قَوْل شرحبيل؛ فاجتمع رأيهم على أنْ يَبعثوا شرحبيل بن وداعة وعبد الله بن شرحبيل وجبار بن فيض، فيأتونهم بخبر رسول الله صلّى الله عليه [وآله].
فانطلق الوفد حتّى أتوا رسول الله صلّى الله عليه [وآله]، فسألهم وسألوه، فلَمْ تَزَل به وبهم المسألة حتّى ".." أنزل الله هذه الآية:
﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب..﴾ إلى قوله ﴿..فنجعل لعنة الله على الكاذبين﴾
فأَبوا أن يُقِرّوا بذلك. فلمّا أصبح رسول الله صلّى الله عليه [وآله] الغد بعدما أخبرهم الخبر، أَقبل مُشتملاً على الحسن والحسين في خميلةٍ له، وفاطمة تمشي خلف ظهره لِلمُلاعنة، وله يومئذ عدّة نسوة، فقال شرحبيل لِصاحبَيه: إنِّي أرى أمراً مُقبلاً. إنْ كان هذا الرجل نبيّاً مرسَلاً فلاعَنّاه، لا يبقى على وجه الأرض منّا شَعر ولا ظِفرٌ إلَّا هلك، فقالا له: ما رأيك؟
فقال رأيي أن أحكِّمه، فإنِّي أرى رجلاً لا يَحكم شَطَطاً أبداً. فقالا له أنت وذاك.
فتلقَّى شرحبيل رسول الله صلّى الله عليه [وآله]، فقال، إنِّي قد رأيتُ خيراً من ملاعنتك.
قال صلّى الله عليه [وآله]: وما هو؟ قال: حُكمك اليوم إلى اللّيل، وليلتك إلى الصَّباح، فمهما حَكمتَ فينا (خلال هذا الوقت) فهو جائز (أي نلتزم به).
فرجع رسول الله صلّى الله عليه [وآله] ولم يُلاعنهم، وصالَحَهُم على الجِزْية».
ـــــــــــــ
مجلة شعائر
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (4)
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم