من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
عن الكاتب :
الشيخ محمد مهدي شمس الدين، (1936م-2001م) عالم دين ومفكر إسلامي ومحدّث، كان رئيساً للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان. بدأ نشاطه العلمي والسياسي في مدينة النجف الأشرف ودرس عند السيد محسن الحكيم والسيد الخوئي. عاد عام 1969م إلى لبنان وتولّى رئاسة الاتحاد الخيري الثقافي الذي أسس عام 1966م و باشر بنشاطات ثقافية وفكرية وتبليغية. من مؤلفاته: نظام الحكم والإدارة في الإسلام، مطارحات في الفكر المادّي والفكر الديني، ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، بين الجاهلية والإسلام وغير ذلك.

من آثار الثّورة الحسينيّة "الأخلاق الجديدة" (3)

ولنا أن نتساءل هنا عن دور المرأة المسلمة في ثورة كربلاء؛ لقد كان في الثائرين الزوج والأخ والولد، فما كان موقف المرأة من مصارع هؤلاء؟

ويأتينا الجواب من التأريخ فنهتزّ لموقف المرأة في كربلاء، لقد كانت المرأة أمّاً وأختاً وزوجة في طليعة الثائرين الـمُناضلين الـمُضحين الباذلين لضريبة الدم. ولا أتحدّث هنا عن زينب وعن أخواتها؛ فمستوى سلوكهن لم يبلغه بشر، وإنّما أتحدّث عن نساء عاديات جدّاً كنّ إلى أيّام قليلة قبل يوم كربلاء يشغلهن ما يشغل كلّ امرأة من شؤون بيتها وزينتها، وتربية أولادها والتحدّث مع جاراتها. نساء لا تربطهن بالثائرين رابطة دم، ولكن تربطهن بهم رابطة مبدأ ورابطة عقيدة، فضحّين بالولد والزوج مستبشرات، ثمّ ضحّين بأنفسهن في النهاية.

 

هذا عبد الله بن عمير قال لزوجته إنّه يريد المسير إلى الحسين عليه ‌السلام، فقالت له: أصبت، أصاب الله بك أرشد أمورك، افعل وأخرجني معك. فخرج بها حتّى أتى حسيناً فأقام معه.

ثمّ برز ليُقاتل، فأخذت امرأته عموداً ثمّ أقبلت نحو زوجها تقول: فداك أبي وأمّي! قاتل دون الطيبين ذرّية محمد. فأقبل إليها يردّها نحو النساء، فأخذت تجاذب ثوبه، ثمّ قالت: إنّي لن أدعك دون أن أموت معك.

فناداها الحسين عليه ‌السلام، فقال: «جُزيتم من أهل بيت خيراً، ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهنّ». فانصرفت، ثمّ قُتل زوجها، فخرجت تمشي إليه حتّى جلست عند رأسه تمسح التراب عنه وتقول:

هنيئاً لك الجنّة. فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام يُسمّى رستم: اضرب رأسها بالعمود. فضرب رأسها فشدخه فماتت مكانها، وهي أوّل امرأة قُتلت من أصحاب الحسين عليه‌ السلام(1).

 

وهذا وهب بن حبّاب الكلبي، قالت له أمّه: قم يا بُني فانصر ابن بنت رسول الله صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله. فقال: أفعل. فحمل على القوم، ولم يزل يُقاتل حتّى قتل جماعة، ثمّ رجع وقال: يا أمّاه، هل رضيتِ؟ فقالت: ما رضيت حتّى تُقتل بين يدي الحسين عليه ‌السلام. فقالت له امرأته: بالله عليك لا تفجعني بنفسك. فقالت له أمّه: يا بُني، اعزب عن قولها، وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيّك تنل شفاعة جدّه يوم القيامة. فرجع، ولم يزل يُقاتل حتّى قُطعت يداه ثمّ قُتل(2).

وبرز جنادة بن الحارث السلماني - وكان خرج بعياله وولده إلى الحسين عليه ‌السلام - فقاتل حتّى قُتل، فلمّا قُتل أمرت زوجته ولدها عمراً - وهو شاب - أن ينصر الحسين عليه ‌السلام، فقالت له: اخرج يا بُني وقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله.

فخرج واستأذن الحسين عليه ‌السلام، فقال الحسين عليه ‌السلام: «هذا شاب قُتل أبوه، ولعلّ أمّه تكره خروجه».

فقال الشاب: أمّي أمرتني بذلك. فبرز وقاتل حتّى قُتل وحُزّ رأسه، ورُمي به إلى عسكر الحسين عليه ‌السلام، فحملت أمّه رأسه وقالت: أحسنت يا بُني. وأخذت عمود خيمة وهي تقول:

أنا عجوزٌ سيدي ضعيفهْ

خاويةٌ باليةٌ نحيفهْ

أضربكم بضربةٍ عنيفهْ

دونَ بني فاطمةَ الشريفهْ

 وضربت رجلين فقتلتهما، فأمر الحسين عليه ‌السلام بصرفها، ودعا لها(3).

هذه نماذج من سلوك الثائرين في كربلاء.

 

ولقد أهمل التأريخ ذكر كثير من بطولات هؤلاء الثائرين؛ فإنّ المؤرّخين يحرصون غالباً على تجنّب ذكر التفاصيل الدقيقة، ويقصرون اهتمامهم على ما يلوح لهم أنّه جليل، ولا ينال الناس العاديون شيئاً من اهتمامهم، بينما يقصرون هذا الاهتمام على البارزين من القادة وإن كان الدور الحقيقي في المعركة هو ما يقوم به هؤلاء الناس العاديون. على أنّ أخبار ثورة كربلاء استهدفت لحملة من السلطة الحاكمة فأهمل المؤرّخون الرسميون ذكر كثير من تفاصيلها الدقيقة ذات المغزى.

ولقد عملت هذه الأخلاق الجديدة عملها في اكتساب الحياة الإسلاميّة سمة كانت قد فقدتها قبل ثورة الحسين عليه ‌السلام بوقت طويل، وذلك هو الدور الذي غدا الرجل العادي يقوم به في الحياة العامّة بعد أن تأثّر وجدانه بسلوك الثائرين في كربلاء، وقد بدأ الحكّام الـمُجافون للإسلام يحسبون حساباً لهؤلاء الرجال العاديين، وبدأ المجتمع الإسلامي يشهد من حين لآخر ثورات عارمة يقوم بها الرجال العاديون على الحاكمين الظالمين وأعوانهم؛ لبُعدهم عن الإسلام، وعدم استجابتهم لأوامر الله ونواهيه في سلوكهم. ثورات كانت روح كربلاء تلهب أكثر القائمين بها، وتدفعهم إلى الاستماتة في سبيل ما يرونه حقّاً.

ولقد تحطّمت دولة أميّة بهذه الثورات، وقامت دولة العباسيِّين بوحي من الأفكار التي تُبشّر بها هذه الثورات، ولـمّا تبيّن للناس أنّ العباسيين كمَنْ سبقهم لم يسكنوا بل ثاروا... واستمرت الثورات التي تقودها روح كربلاء بدون انقطاع ضدّ كلّ ظلم وطغيان وفساد.

ـــــــــــــــــــــ

(1).. انظر: تاريخ الطبري 4/326 و333.

(2).  انظر: تأريخ الطبري 4/315.

(3). انظر: تأريخ الطبري 4/333.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد