كان الناس في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلجأون في معرفة أمور دينهم إليه صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى من جعلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبله كأمراء أو رسل إلى البلاد الأخرى، وبقي الحال على ذلك إلى أن قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما بعد زمانه صلى الله عليه وآله وسلم فكان الناس يسألون الخلفاء خاصة والصحابة عامة لما تفرقوا في سائر البلدان، لأنهم كانوا أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأعرفهم بأحكام دينه.
ولما جاء عصر التابعين وتابعي التابعين انقسم العلماء إلى قسمين: أهل الحديث، وأهل الفتوى. وكثر المفتون في المدينة ومكة والشام ومصر والكوفة وبغداد وغيرها من بلاد الإسلام، فكان العامة يسألون من يظهر لهم علمه ومعرفته، دون أن يتمذهبوا بقول واحد بعينه.
إلا أن المهاترات التي وقعت بين أهل الحديث وأهل الفتوى وبالأخص أهل الرأي منهم من جهة، مضافًا إلى تقريب الخلفاء لبعض العلماء دون البعض الآخر من جهة أخرى، ولّد روح التعصب عند الناس لبعض الفقهاء، والحرص على الالتزام بآرائه الفقهية وطرح آراء غيره.
ولما ظهر أبو حنيفة كفقيه له آراؤه الفقهية، استطاع أن يستقطب له تلاميذ صار لهم الدور الكبير بعد ذلك في نشر تلك الآراء، ولا سيما القاضي أبو يوسف (1) الذي نال الحظوة عند الخلفاء العباسيين، فتولى منصب القضاء لثلاثة من الخلفاء: المهدي والهادي والرشيد، فنشر مذهب أبي حنيفة بواسطة القضاة الذين كان يعينهم هو وأصحابه.
ولما بزغ نجم مالك بن أنس، أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على العمل بما في الموطأ، وأمر من ينادي في الناس: ألا لا يفتين أحد ومالك بالمدينة. وحظي مالك بمكانة عظيمة عنده وعند من جاء بعده من أبنائه الخلفاء، كالمهدي والهادي والرشيد، فسبب ذلك ظهور أتباع له يروجون مذهبه، ويظهرون التعصب له.
ثم تألق الشافعي وبرز على علماء عصره، وساعده على ذلك تتلمذه على مالك في المدينة، ونزوله ضيفًا لـمّا ذهب إلى مصر عند محمد بن عبد الله بن الحكم الذي كانت له في مصر مكانة ومنزلة علمية، وكان مقدّمًا عند أهل مصر، فقام هذا الأخير بنشر علم الشافعي وبث كتبه، مضافًا إلى ما لقيه الشافعي في بادئ الأمر من المالكية في مصر من الإقبال والحفاوة، بسبب كثرة ثنائه على الإمام مالك، وتسميته ب (الأستاذ).
ولما وقع الإمام أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن، وضرب وحبس، مع ما أظهر من الصبر والتجلّد، جعل له المكانة عند الناس، ولا سيما بعد أن أدناه المتوكل العباسي وأكرمه وعظمه، وعني به عناية فائقة.
هكذا نشأت هذه المذاهب وانتشرت دون غيرها.
ثم إن الأغراض السياسية والمآرب الدنيوية كانت وراء دعم الخلفاء لهذه المذاهب، فإن خلفاء بني العباس أرادوا أن يلفتوا الناس إلى علماء من أهل السنة، لتكون لهم المكانة السامية عند الناس، باعتبارهم أئمة في الدين، ليصرفوا الأنظار عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، الذين كانت نقطة التوتر بينهم هي الأولوية بالخلافة.
ولهذا كان شعراء بني العباس يثيرون هذه المسألة في مناسبات كثيرة، يعرضون فيها بأبناء علي وفاطمة عليهم السلام، ويحتجون بأن الخلافة ميراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلي عليه السلام ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والعباس عمه، وابن العم لا يرث مع وجود العم.
ومما أنشده مروان بن أبي الجنوب للمتوكل:
ملك الخليفة جعفر
للدين والدنيا سلامه
لكم تراث محمد
وبعد لكم تنفى الظلامه
يرجو التراث بنو البنا
ت وما لهم فيها قلامه
والصهر ليس بوارث
والبنت لا ترث الإمامة
ما للذين تنحلوا
ميراثكم إلا الندامة
أخذ الوراثة أهلها
فعلام لومكم علامه
لو كان حقكم لما
قامت على الناس القيامة
ليس التراث لغيركم
لا والإله، ولا كرامه
أصبحت بين محبكم
والمبغضين لكم علامه
قال مروان: فعقد لي على البحرين واليمامة، وخلع لي أربع خلع، وخلع علي المنتصر، وأمر لي المتوكل بثلاثة آلاف دينار، فنثرت علي (2).
قال ابن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام: وليعلم من قرأ كتابنا أن هذه البدعة العظيمة - نعني التقليد - إنما حدثت في الناس وابتدئ بها بعد الأربعين ومائة من تاريخ الهجرة، وبعد أزيد من مائة عام وثلاثين عامًا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لم يكن قط في الإسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحد فصاعدًا على هذه البدعة ، ولا وجد فيهم رجل يقلد عالـمًا بعينه، فيتبع أقواله في الفتيا، فيأخذ بها ولا يخالف شيئًا منها.
ثم ابتدأت هذه البدعة من حين ذكرنا في العصر الرابع في القرن المذموم، ثم لم تزل تزيد حتى عمت بعد المائتين من الهجرة عمومًا طبق الأرض، إلا من عصم الله عز وجل وتمسك بالأمر الأول الذي كان عليه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين بلا خلاف من أحد منهم.
نسأل الله تعالى أن يثبتنا عليه، وأن لا يعدل بنا عنه، وأن يتوب على من تورط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين، وأن يفيء بهم إلى منهاج سلفهم الصالح (3).
وسواء كانت هذه المذاهب سبقت هذا الزمان قليلاً أو كثيرًا فهي على كل حال لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما استحدثت بعد أكثر من قرن من وفاته صلى الله عليه وآله وسلم.
فرض المذاهب الأربعة مذاهب رسمية
بقي العمل بالمذاهب المتعددة عند أهل السنة، الأربعة وغيرها، إلى أن جعل الخلفاء المدارس وقصروا التدريس في هذه المذاهب، كما أن مناصب القضاء حصرت أيضًا في القضاة الذين يقضون بفتاوى الأئمة الأربعة، واستمر الحال على ذلك إلى أن أمر السلطان الظاهر بيبرس الذي كان له النفوذ والسلطان على مصر والشام وغيرهما من بلاد الإسلام بجعل قضاة أربعة في مصر: لكل مذهب قاض خاص، وكان ذلك في سنة 663 ه، ثم جعل بعد ذلك بعام في بلاد الشام قضاة أربعة أيضًا، وعلى ذلك استمر الحال، فانحصرت المذاهب عند أهل السنة في هذه الأربعة منذ ذلك الوقت إلى زماننا الحاضر. قال المقريزي: فلما كانت سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري ولى بمصر أربعة قضاة، وهم شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي، فاستمر ذلك من سنة 665 ه، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة، وعملت لأهلها مدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام، وعودي من تمذهب بغيرها، وأنكر عليه، ولم يول قاض ولا قبلت شهادة أحد، ولا قدم للخطابة والإمامة من لم يكن مقلدًا لأحد هذه المذاهب، وأفتى فقهاء الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها (4).
قال ابن كثير في البداية والنهاية: ثم دخلت سنة أربع وستين وستمائة، استهلت والخليفة: الحاكم العباسي، والسلطان: الملك الظاهر، وقضاة مصر أربعة، فيها جعل بدمشق أربعة قضاة من كل مذهب قاض كما فعل بمصر عام أول... وقد كان هذا الصنيع الذي لم يسبق إلى مثله قد فعل في العام الأول بمصر كما تقدم، واستقرت الأحوال على هذا المنوال (5).
وذكر ذلك أيضًا: الذهبي في كتابه العبر في حوادث سنة 663 ه. وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب، وتغري بردي في النجوم الزاهرة وغيرهم (6).
وقال السيد سابق: وبالتقليد والتعصب للمذاهب فقدت الأمة الهداية بالكتاب والسنة، وحدث القول بانسداد باب الاجتهاد، وصارت الشريعة هي أقوال الفقهاء، وأقوال الفقهاء هي الشريعة، واعتبر كل من يخرج عن أقوال الفقهاء مبتدعًا لا يوثق بأقواله، ولا يعتد بفتاويه.
وكان مما ساعد على انتشار هذه الروح الرجعية ما قام به الحكام والأغنياء من إنشاء المدارس، وقصر التدريس فيها على مذهب أو مذاهب معينة، فكان ذلك من أسباب الإقبال على تلك المذاهب، والانصراف عن الاجتهاد، محافظة على الأرزاق التي رتبت لهم!
سأل أبو زرعة شيخه البلقيني قائلاً: ما تقصير الشيخ تقي الدين السبكي عن الاجتهاد وقد استكمل آلته؟ فسكت البلقيني. فقال أبو زرعة: فما عندي أن الامتناع عن ذلك إلا للوظائف التي قدرت للفقهاء على المذاهب الأربعة، وإن خرج عن ذلك لم ينله شيء، وحرم ولاية القضاء، وامتنع الناس عن إفتائه، ونسبت إليه البدعة. فابتسم البلقيني ووافقه على ذلك (7).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). هو يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، ولد في الكوفة سنة 113 ه، ونشأ فيها، وكان فقيرًا معدمًا، اتصل بأبي حنيفة وتتلمذ على يديه، وفأولاه أبو حنيفة عناية خاصة، فكان ينفق عليه وعلى عياله، إلى أن مات أبو حنيفة سنة 150 ه، فاستقل برئاسة المذهب، وتولى القضاء، وحظي بمكانة عظيمة عند هارون الرشيد، وهو أول من لقب بقاضي القضاة، ونشر مذهب أبي حنيفة في الآفاق، توفي سنة 182 ه، وعمره 69 سنة.
(2). الكامل في التاريخ 7 / 101 .
(3) الإحكام في أصول الأحكام 6 / 126 .
(4) المواعظ والاعتبار (خطط المقريزي) 3 / 390 .
(5) البداية والنهاية 13 / 260 .
(6) العبر في خبر من غبر 3 / 307 . شذرات الذهب 5 / 312 . النجوم الزاهرة 7 / 121 .
(7) فقه السنة 1 / 10 .
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة
اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
لا يدرك الخير إلّا بالجدّ
الوصول إلى حالة الانغماس وقياس مستواها