مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

من أسرار الحجّ


الشيخ جعفر السبحاني ..

أرسل الله، تبارك تعالى، جميعَ الأنبياء لمحاربة الشِّرك وعبادة الأصنام، ولِفهم هذا الأمر بشكلٍ واضح؛ يكفينا الوقوف عند هذه الآية الشريفة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ الأنبياء:25. توضح هذه الآية المباركة، وبشكلٍ جليٍّ، بأنّ من أهمّ واجبات الأنبياء إزالة مظاهر الشرك بأنواعه كافّة، في كلّ آن ومكان.
من هنا، ومن خلال أخذ هذا الأصل بنظر الاعتبار، فإنّ بعض الأعمال في الصلاة ومراسم الحجّ تبدو في ظاهر الحال وكأنّها لا تتلاءم مع مبدأ التوحيد؛ من قبيل: التوجّه نحو الكعبة أثناء الصلاة، وما هي سوى أحجار وطين، أو لمس (الحجر الأسود) باليد، وهو أيضاً لا يعدو كونه جماداً، أو السعي بين جبلَي الصفا والمروة، وغيرها من الأعمال. وعليه يفرض هذا التساؤل نفسه، ما هو السرّ الكامن في هذه الأعمال والواجبات؟ وما هو وجه الاختلاف بينها وبين أعمال المشركين؟
وقبل البدء في بيان أسرار هذه الأعمال، نُشير إلى أنّ هذا التساؤل سبق أن طُرح قديماً. ففي عصر الإمام جعفر الصادق عليه السلام حضر ابن أبي العوجاء - زعيم الماديّين آنذاك - مع جماعة من أصحابه عند الإمام الصادق عليه السلام، وتوجّه له بالسؤال التالي: «يا أبا عبد الله! إنّ المجالس أمانات، ولا بدّ لكلّ من به سُعالٌ من أن يَسعُل، أتأذن لي في الكلام؟
فقال عليه السلام: تَكَلَّمْ!
فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت المعمور بالطوب والمدَر، وتهرولون حوله هرولةَ البعير إذا نفر! إنّ مَن فكّر في هذا وقدّر، علم أنّ هذا فعلٌ أَسَّسَهُ غيرُ حكيمٍ ولا ذي نظر. فقُل فإنّك رأسُ هذا الأمر وسَنامه، وأبوك أُسّه وتمامه.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: إنَّ مَنْ أَضَـلَّهُ الله وَأَعْمَـى‌ قَلْـبَهُ اسْتَوْخَمَ الحَقَّ وَلَمْ يَسْتَعْذِبْهُ، وَصَارَ الشَّيْطَانُ وَلِيَّهُ وَرَبَّهُ وَقَرينَهُ، يُورِدُهُ مَنَاهِلَ الهَلَكَةِ ثُمَّ لاَ يُصْدِرُهُ.
وَهَذَا بَيْتٌ اسْتَعْبَدَ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ لِيَخْتَبِرَ طَاعَتَهُمْ فِي‌ إتْيَانِهِ، فَحَثَّهُمْ عَلَى تَعْظِيمِهِ وَزِيَارَتِهِ، وَجَعَلَهُ مَحَلَّ أَنْبِيَائِهِ، وَقِبْلَةً لِلْمُصَلِّينَ إِلَيْهِ، فَهُوَ شُعْبَةٌ مِنْ رِضْوَانِهِ، وَطَرِيقٌ يُؤَدِّي‌ إلَى‌ غُفْرَانِهِ، مَنْصُوبٌ عَلَى‌ اسْتِواءِ الكَمَالِ، وَمُجْتَمَعِ العَظَمَةِ وَالجَلاَلِ، خَلَقَهُ الله قَبْلَ دَحْوِ الاَرْضِ بِأَلْفَي‌ عَامٍ، فَأَحَقُّ مَنْ أُطِيعَ فِيمَا أَمَرَ، وانْتُهِيَ عَمَّا نَهَى‌ عَنْهُ وَزَجَرَ: اللهُ المُنْشِىءُ لِلأَرْوَاحِ وَالصُّوَرِ».
فمن خلال المنطق القويم والحديث الحكيم، كشف الإمام الصادق عليه السلام النقاب عن بعض أسرار الحجّ. حيث سننقل نفحَات ورشحات من حديثه المبارك، وحديث سائر أئمّة الهدى الوارد في الإجابة عن هذا السؤال: والهدف المتوخّى من وراء هذا النقل، الإشارة إلى قِدَمِ هذا السؤال، ليتّضح لنا بأن هذه التساؤلات، كان لها حضورٌ في أذهان الناس.


سرّ التوجّه إزاء الكعبة أثناء الصلاة:
على العكس ممّا كان يجول في ذهن ابن أبي العوجاء، المادّيّ المعروف في عصر الإمام جعفر الصادق عليه السلام، فإنّ الهدف من التوجّه نحو الكعبة أثناء الصلاة، لا يعني عبادة الكعبة أو حجرها وطينها. فإنّ جميع المصلّين يعبدون الله تعالى، وحالَ توجّههم نحو الكعبة، فإنّ الجميع يخاطب الله الواحد الأحد بقوله: ﴿إِيَّاك نَعْبُدُ وإِيَّاك نَسْتَعِينُ﴾. والعلّة في توجّهنا نحو الكعبة حال الصّلاة، تكمن في أنّ الكعبة تُعدّ أقدمَ معبدٍ وبيتٍ للتوحيد، بُني بأيدي أنبياء الله العظام للموحّدين من أهل الأرض، ولا يسبقه في هذا القِدَم أيّ معبد آخر، كما يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ آل عمران:96.
إنّ الشريعة الإسلاميّة المُقدّسة، ومن أجل إيجاد الوحدة بين المصلّين، وتوحيد صفوف المُتَوَسّلين، أوجبت على الجميع أداء الصلاة بلُغة واحدة، والتوجّه إلى أقدم المعابد حال الصلاة، لتحفظ من خلال هذا السبيل وحدتهم حال العبادة والتعبّد؛ أي أن يتفوّه ملايين البشر في آنٍ واحد بكلامٍ واحد، ويتّجهون نحو نقطة واحدة، وأن يُعلنوا وحدتهم واتّحادهم بشكلٍ واضحٍ وعَلَنيّ. وبناءً على ذلك، فإنّ التوجّه نحو هذا المعبد ليس بمعنى عبادته، بل بمعنى جعْله رمزاً لوحدتهم واتّحادهم حال العبادة.
لقد كان المسلمون في صدر الإسلام، يُقيمون الصلوات جماعة، وصلاة الجماعة من المُستحبّات المؤكّدة في الإسلام. فلو أراد جمعٌ أداءَ فريضة ما معاً، عليهم أن يتوجّهوا جميعاً إلى وجهة واحدة، وبغير هذه الصورة لا يُمكن أداء الفريضة.

إنّ نبيّ الإسلام والمسلمين جميعاً، ظلّوا يصلّون لفترة من الزمن متّجهين في صلاتهم تلك نحو المسجد الأقصى، إلاّ أنّه وبعد سبعة عشر شهراً من تاريخ الهجرة، جاء الأمر بأن يتّجه المسلمون نحو المسجد الحرام والكعبة حيثما كانوا، لأسباب وعلل ذُكِرت في محلّها. قال الله عزّ وجلّ: ﴿...فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه...﴾ البقرة:144.
لقد ذكّر الإمام الصادق عليه السلام هذا المعترِض المادّي في عصره بواحدة من أسرار التوجّه نحو الكعبة حال الصّلاة وقال: «وَهَذَا بَيْتٌ اسْتَعْبَدَ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ لِيَخْتَبِرَ طَاعَتَهُمْ فِي‌ إتْيَانِهِ، فَحَثَّهُمْ عَلَي‌ تَعْظِيمِهِ وَزِيَارَتِهِ، وَجَعَلَهُ مَحَلَّ أَنْبِيَائِهِ، وَقِبْلَةً لِلْمُصَلِّينَ إِلَيْهِ، فَهُوَ شُعْبَةٌ مِنْ رِضْوَانِهِ، وَطَرِيقٌ يُؤَدِّي‌ إلَى‌ غُفْرَانِهِ».


استلامُ (الحجر الأسود) باليَد:
يستفاد من الأحاديث الإسلاميّة، أنّ بناء الكعبة كان موجوداً، قبل عصر سيّدنا إبراهيم عليه السلام، وأنّ جداره تهدّم عقب طوفان نوح عليه السلام. وبعد أن أُمِرَ النبيّ إبراهيم بإعادة بناء الكعبة، وَضَعَ «الحجر الأسود»... بأمرٍ من الله تعالى في جدارها. والآن يطرح هذا السؤال: لماذا نستلم هذا الحجر بأيدينا؟ وما هو الهدف من هذا العمل؟
وجواب ذلك: أنّ استلامَ الحجر ووضْعَ اليد عليه، يعدّ نوعاً من العهد والبيعة مع سيّدنا إبراهيم لمحاربة مظاهر الشرك وعبادة الأوثان بأنواعها كافّة، أسوةً ببطل التوحيد، وأن لا ننحرف عن الحنيفيّة، ولا نخرج عن جادّة التوحيد في مظاهر الحياة كافّة.
وتتمّ البيعة مع الفرد أحياناً، بمصافحة يده وغمْزها، أو بمسك طرف الثوب، وأحياناً أُخرى تتمّ بشكل آخر. ونقرأ في التاريخ عندما نزلت الآية المباركة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَن لَّا يُشْرِكنَ بِاللَّهِ شَيْئًا...﴾ (الممتحنة:12)، فإنّ النبيَّ صلّى الله عليه وآله أمر بإحضار إناءٍ فيه ماء، ووضع يده المباركة فيه، ثمّ أخرجها من الماء وقال: «أَدْخِلْنَ أَيدِيَكُنَّ فِي هَذَا المَاءِ فَهِيَ البَيعَةُ».
ومن هنا فإنّ مُبايعة رسول الله تمّت عن طريق وضْع اليد في شيءٍ، وضَعَ النبيُّ صلّى الله عليه وآله يده فيه. ومسألة استلام «الحجر الأسود» من هذا القبيل أيضاً.
فالهدف، إذاً، هو أن نبايع إبراهيم عليه السلام ونبيّنا الأكرم صلّى الله عليه وآله على صيانة التوحيد. لذا يقول الإمام الصادق عليه السلام: «وَقُلْ عِنْدَ اسْتِلامِكَ الحَجَرَ: أَمانتي أَدَّيْتُها وَميثاقي تَعاهَدْتُهُ لِتَشْهَدَ لي بِالمُوافاةِ».
يقول ابن عبّاس: «واستلامه اليوم - أي الحجر - بيعةٌ لمن لم يُدرك بيعةَ رسول الله صلّى الله عليه وآله».
وبناءً على ذلك فإنّ الهدفَ من تقبيل الحجر واستلامه، تجسيدٌ لميثاقٍ قلبيّ مركزهُ روحُ الإنسان. وحقيقة الأمر، أنّ زائري بيت الله بعملهم هذا، يجسّدون ذلك الميثاق القلبيّ على هيئة أمرٍ ملموسٍ ومحسوس.
وفي الكثير من بلدان العالم، يقدّس الجنود أعلام بلدانهم، ويقفون أمامها بإجلال وإكبار مُجدّدين العهد باليمين. ومن المسلّم به، أن العَلَم بضعة أمتار من القماش ليس إلاّ، لكنّه يُمثّل رمز استقلال البلد، وعنوان إرادته الوطنيّة والشعبيّة. وفي هذه الحالة، فإنّ الجندي بدلاً من مصافحة أيدي الناس أو القادة وغمْزها، فإنّه يشير إلى العلَم ويؤدّي اليمين والعهد. وستقرأ في الجزء الآخر من الجواب، بأنّ الهدف من بعض مراسم الحجّ، هو تجسيدُ نوع من الحقائق، التي جسّدت نفسها عن طريق أعمال الحجّ.


السّعي بين الصفا والمَروة:
إنّ حُجّاج بيت الله الحرام، ومن خلال السّعي بين الصفا والمَروة، يجسّدون حالة السيّدة هاجر أمّ إسماعيل عليه السلام. وبشهادة التاريخ، فإنّها عليها السلام - ومن دون أن تيأس من رحمة الله تعالى - سَعَتْ في تلك الصحراء القَفْر من الزرع والماء، سبعَ مرّات بين ذَينك الجبليْن بحثاً عن الماء، وفي نهاية المطاف شملها لطف الله تعالى، ونالت مقصودها، وبعد أن فار الماء تحت أقدام إسماعيل عليه السلام نجت هي وابنها من العطش.
ويستفاد من بعض الأحاديث، بأنّ الشيطان قد تجسّد لسيّدنا إبراهيم عليه السلام في هذا المكان، وأخذ يعقّبه في سعيه، ليُبعده عن حرم بيت الله. وبأدائنا لهذا العمل، إنّما نجسّد ذلك العمل المعنويّ. وبذبح القرابين في صحراء منى، فإنّنا نُحيي ذكرى فداء سيّدنا إبراهيم عليه السلام الذي ضحّى بكلّ شيء في سبيل الله، حتّى ولده.


الهدف من رمي الجَمَرات:
إنّ حجّاج بيت الله الحرام يرجمون في أيّام العاشر والحادي عشر والثاني عشر، أعمدةً مُعيّنة في أرض مِنى (قرب مكّة) بالحجر. وبهذا العمل فإنّهم يرمون في الظاهر نقطة معيّنة بالحجر، إلاّ أنّهم يرجمون الشيطان في باطنهم.

والأحاديث الإسلاميّة بيّنت ماهية هذا العمل بقولها: إنّ الشيطان قد تجسّد لسيدنا إبراهيم عليه السلام في الأماكن الثلاثة هذه، ورَجَمَهُ إبراهيم بالحجر ليظهر تنفّره منه. وبقيَ عمل إبراهيم هذا سُنّةً إلهية في أعمال الحجّ.
إنّ حجّاج بيت التوحيد، وإظهاراً لنفرتهم من الشيطان والشياطين، يرجمون تلك النقطة بالحجر تعبيراً عن إبراهيميّتهم. وبهذا الشكل فإنّهم يعبّرون عن غضبهم من كلّ موجود شرّير خبيث ونجِس. وإنّ النفرة من النجاسة وهي أمر معنويّ وقلبيّ، يعبّرون عنها بهذه الطريقة بشكل ملموس ومحسوس.
واليوم فإنّ الشعوب المستضعفة، التي تعاني الظلم والجور، تقوم بإحراق أعلام الدول المستكبرة السلطوية، والعلم ليس أكثر من بضعةِ أمتار من القماش الملوّن. إلاّ أنّ الشعوب - ومن أجل إظهار غضبها تجاه الفظائع والجرائم التي ترتكبها القوى العظمى- تقوم بإحراق رموزهم، وكأنهّم قاموا بإحراقهم وإبادتهم والقضاء عليهم، وعلى الأقلّ فإنّ هذا العمل يُبيّن انزعاجهم الشديد من أولئك الظّلمة.
وخلاصة القول: إنّ الذي يتأمّل في تاريخ فرائض الحجّ، يتلمّس الحقيقة التالية: وهي أنّ الكثير من هذه الأعمال، الغرضُ منها تجسيد طائفة من الذكريات البنّاءة من حياة سيّدنا إبراهيم عليه السلام وسيرته، ومجموعة من الأمور المعنوية والأخلاقية، التي تؤدّى بسلسلة من الأعمال بشكل نموذجي ومنظّم، وليس الغرض منها عبادة الحجر والطين والجبل مطلقاً.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد