إيمان شمس الدين
كان منهج الشهيد مطهري النهضوي الفكري يسير في خطين متوازيين :
الأول: البناء الداخلي للإسلام وسبر أغوار الإشكاليات التي أعاقت إبرازه كحضارة نهضوية مستديمة في سيرورتها التاريخية، فحاول اكتشاف أهم نقاط الضعف وقام بعملية نقد للذات موضوعية صريحة من موقع المتمكن، والمعتز بهويته الإسلامية لا موقع التابع المنهزم نفسيًّا، ومستفيدًا من الحضارات الأخرى وتجاربها البشرية في موضوع النهضة والإحياء. وتطلب ذلك من الشهيد مرتضى مطهري تفكيكًا بنيويًّا داخل ديني ابستمولوجي، شخص من خلاله أهم مكامن الخلل المعرفية في إبراز معالم النهضة الإسلامية معتمدًا هو بذلك على قراءة تجارب مصلحين سابقين كمحمد إقبال كونه نموذجًا معاصرًا له قدم رؤية نهضوية أحدثت إرباكات وانزياحات معرفية في فهم الإسلام وإدراك أبعاده النهضوية.
ففي كتابه الإسلام ومتطلبات العصر ص ١٤يقول بعد أن شخص متطلبات الإنسان العصرية نتيجة الثورة الصناعية حيث قال: "على المسلم في خضم هذا العالم أن يعرف ليس فقط الإسلام معرفة صحيحة في فلسفته الاجتماعية وعقيدته الإلهية ونظامه الفكري والحقوقي ليكون على بينة من أمره، وليتجنب الأخطار، وليرسم طريقه بثبات واستقامة، إنما عليه كذلك أن يعرف بصورة جيدة وواضحة إشكاليات العصر وتطوراته وأوضاعه ونتاجاته المعرفية وحراكه وتحولاته وتعقد أسئلته."
وهنا كان يعني عملية الاجتهاد والضرورات المستحدثة لتطوير هذه العملية وضرورة الأخذ في الحسبان كل هذه الإشكاليات والتحديات التي تواجه المجتمع البشري وخاصة المسلم، كي تُعاد قراءة النصوص على ضوئها.
ويقول الدكتور خنجر حمية في مصدر سابق ص ١٦١ عما ذكره الشهيد مطهري في الإسلام ومتطلبات العصر: لقد كان مطهري يدرك أن فكرة استجابة الإسلام لتغيرات الحياة لا تحتاج إلى كثير تأكيد، لوضوح معالمها في طبيعة تشريعات الإسلام عند من قرأه بعينه وتدبر تعاليمه، ولأن التجربة التاريخية أكدتها بما لا يقبل الشك أو التردد، ولأن الفقه في تطوره وتعاظمه كان خير تجسيد لها في العمل والمممارسة. لكنه يدرك من جانب آخر أن التمييز في مظاهر التقدم والمدنية، وفي أشكال الحراك التاريخي للإنسان والمجتمع بين نافع وضار، وبين أصيل وعارض، ليس بهذا الوضوح، وهو لا يكاد يتبدَّى إلا بالانعطاف نحو دراسة معمقة لطبيعة الإنسان، ولقوانين التطور التاريخي وسننه. ولمقتضيات فطرته الأولية الثابته وغريزته، ولقوانين التطور التاريخي وسننه. ليتبدى الواقعي من مظاهر التغير، وليتميز الزبد عن الجوهر ومظاهر الانحلال عن مظاهر التغير.
وهنا أوضح الشهيد مطهري الثوابت التي لا تتعرض لأي تغيير عبر الزمن نافيًا النسبية المطلقة التي طرحها الغرب، لكنه في ذات الوقت وضح أن الاسلام يتعاطى مع الواقع بمرونة عالية متحركة ضمن المتغيرات التي تتحرك على ضوء تلك الثوابت والكليات .
وفي قبال الجو النصي الذي كان طاغيًا على تلك الحقبة من عمر المؤسسة الدينية، وضمن التحديات الثقافية الغربية التي أطلت برأسها على المجتمع الإسلامي، أعاد مطهري الاعتبار للعقل في الإجابة على سؤال ما هو معيار التمييز بين الصالح والطالح في التجربة الإنسانية والدينية التاريخية:
ويجيب مطهري في الإسلام ومتطلبات العصر ص ٣٥ : العقل هو الوسيلة التي ينبغي أن يستثمرها الإنسان لتمييز ذلك، لأن بواسطته يستطيع تأمل تجاربه فيدرك بذلك انحرافه، وجذور تراجعه. ولقد يدلنا العقل بسهولة وبساطة ويسر ويرشدنا إلى أن الإنسان استثمر على مدى الزمن قدراته وما أبدعه في سبيل خدمة أهداف تنافي طبيعته، وتتجاوز مقتضيات فطرته، ومن أجل غايات وهمية وآمال زائفة وطموحات متهورة، وإشباها لغرائز متفلته ومندفعة وطاغية لم تجد في طريق انطلاقها عائقا يحد منها، أو وازع يخفف من غلوائها، فكانت نتيجة لذلك الانهيار الشامل لتجارب والدمار الكلي لأمم، والفناء المحقق لشعوب، والقهر المقيت لمجتمعات."
وضمن هذه العجالة نستطيع القول أن الشهيد مرتضى مطهري قام بفتوحات نهضوية منطلقًا من رصيده الفلسفي في النظر لبنية الإسلام المفاهيمية وجوهره وإعادة فهم كثير من مدياته على ضوء الإشكاليات والتحديات التي واجهت عصر الشهيد معرفيًّا وثقافيًّا.
الثاني: البناء الخارجي والمتعلق بالحضارة الغربية والاطلاع على كل إسهاماتها وأفكارها وثمارها اطلاعًا علميًّا لا تابعًا، ناقدًا لا مسلمًا، مستفيدًا لا مستنكفًا، مدركًا الفروق الجوهرية ومكامن خلل الاسقاطات والمقايسات بينه وبين حضارات أخرى. واستطاع بمبضعه كفيلسوف توضيح إرهاصات كثير من الأفكار الغربية التي أحدثت ضجيجًا في أوساط المثقفين والمفكرين، وبين البنى المعرفية والفلسفية التي تعتبر القاعدة التي تنظلق منها كل هذه الأفكار، محددًا معالم المصطلحات وأوعيتها المعرفية التي انطلقت منها.
فهو تعامل مع معطيات الحضارة الغربية بطريقة معتدلة وسطية مفندًا للأفكار وناقدًا لها من الجذور ومستفيدًا في ذات الوقت من كثير من الأفكار الصالحة والتجارب القويمة المنهجية في هذا الصدد لدى مفكري الغرب استفادة معرفية منهجية في إعادة سبر أغوار الإسلام .
فهو يقول في الإسلام ومتطلبات العصر: "إن إحدى خصائص الإسلام هي الاعتدال والوسطية، أكدت على ذلك التربية القرآنية، ورسخته، فلا هو بالجامد الثابت المتحجر المتزمت، ولا هو المرن المتلون المتبدل بتبدل الزمان والمكان وتعاقب الأيام واختلاف الأوضاع".
واعتبر مطهري في نفس المصدر أن قيمة مظاهر التطور لا تكمن فقط في الشكل والصورة، بل في الجوهر والمضمون أي في استعمال البشر لها فيما فيه خيرهم.
واستطاع الشهيد مرتضى مطهري إعادة كل المصطلحات والمفاهيم الهاجمة على الثقافة الإسلامية وجسدها إلى جوهرها وقاعدتها التي انطلقت منها، كونها مفاهيم كلية ظاهرها خيري لا يختلف معه الإنسان لكن جوهرها والغاية من إثارتها كان لتفريغ الهوية الإسلامية من جوهرها القيمي وإحلاله بقيم الحضارة الغربية المادية.
حيث أثيرت في تلك الفترة مجموعة من القضايا التي كانت تشكل هاجسًا اجتماعيًّا في إيران ما قبل الثورة، كقضية حقوق المرأة والحرية والمساواة والحجاب والنسبية كنسبية الأخلاق والعدالة، ولقد قام الشهيد مطهري بإفراد كتاب لكل موضوع، ومعالجة القضايا المتعلقة بكل موضوع معالجات منهجية اتسمت بتفنيد كل النظريات الغربية حول هذا الموضوع تفنيدًا فلسفيًّا علميًّا ومن ثم طرح الرؤية الإسلامية حوله وتقديم مشروع نهضوي إسلامي بديل .
فلم يكن رافضًا لكل مخرجات الحداثة، لكنه لم يقبل منها إلا ما توافق مع حذور الهوية الإسلامية وليس ظاهرها، طبعًا بعد تفنيد تلك المخرجات وإعادتها لقاعدتها الفلسفية وغاياتها ومراداتها وآثارها.
فهو من جهة واجه محاولات التغريب وتغيير معالم الهوية الإسلامية بحجة التجديد والإصلاح، ومن جهة أخرى أدرك أن هذا التشظي في شخصية العالم الإسلامي له أسبابه التي جعلت منه قابلًا متلقفًا، فوضع يده على أهم الثغرات والإشكاليات المعرفية وقدم لها معالجات عميقة ليعيد بناءها معرفيًّا وفق فهم إبستمولوجي جامع بين فلسفة عميقة وإدراك للنص وفق متطلبات الزمان والمكان.
لقد ثبت الشهيد مطهري ركنا من أركان المعرفة البشرية كان ومازال باعتقادي مهملًا كمصدر معرفي رافد لفهم الدين، وهي التجربة وخاصة التجربة البشرية الدينية، فلم يتوان في مشروعه النهضوي من الاستفادة من تجربة الغرب المعرفية ولا من تجارب المصلحين النهضويين السابقين من المسلمين، لكنه استفاد كناقد وكرافد، ناقدًا لتلك التجارب وموضحًا مكامن خللها، وكرافد للتجربة الدينية يضخ بها من جهده العقلي وفهمه الواسع للدين مشكلًا مصدرًا معرفيًّا جديدًا بتجربته الدينية، يضيف إلى رصيد فكرة النهضة ويجدد في كثير من أرصدة فهم الإسلام.
ويبقى أن نذكر في ختام هذه المقال - التي لا تفي بحق الشهيد مطهري - رأي الأستاذ الطباطبائي صاحب تفسير الميزان بتلميذه الشهيد مطهري حيث قال :
" كان المرحوم مطهّري يمتلك ذكاءً خارقًا، ولم يكن الحديث معه يذهب سدى، وعلاوة على حالات التقوى والإنسانية والجهاد التي كان يتمتع بها بحقّ، كانت فطنته كبيرة، وكنت مطمئنًا أن ما ألقيه عليه لا يضيع.
هناك جملة ولعلّها غير لائقة ولكني أقولها: لما كان يحضر مطهّري للدرس كانت تحصل عندي حالة من الطَرَب، لأني أعلم أن ما أقوله، لن يكون هدرًا بوجوده، فبوجوده يُحفَظ الكلام".
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان