مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ فوزي آل سيف
عن الكاتب :
من مواليد سنة «1379 هـ» في تاروت ـ القطيف، درس المرحلة الابتدائية في تاروت وهاجر للدراسة الدينية في الحوزة العلمية بالنجف ـ العراق سنة 1391 هـ. التحق في عام 1394 هـ، بمدرسة الرسول الأعظم ودرس فيها الأصول والفقه وتفسير القرآن والتاريخ الإسلامي والخطابة والأدب، في عام 1400 هـ هاجر إلى الجمهورية الإسلامية في إيران وشارك في إدارة حوزة القائم العلمية في طهران، ودرّس فيها الفقه والأصول والثقافة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، وأكمل دراسة المنهج الحوزوي في الفقه والأصول. انتقل لمتابعة دراساته العالية إلى قم في بداية عام 1412 هـ ودرس البحث الخارج، عاد في نهاية عام 1418 هـ إلى وطنه القطيف. صدر له عدد من المؤلفات منها: "من قضايا النهضة الحسينية أسئلة وحوارات، نساء حول أهل البيت، الحياة الشخصية عند أهل البيت، طلب العلم فريضة، رؤى في قضايا الاستبداد والحرية، صفحات من التاريخ السياسي للشيعة" وغير ذلك..

الشك في أقسامه والموقف منه

عن أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام أنه قال: "عَلَيكَ بِلُزُومِ اليَقِين، وَتَجَنُّبِ الشَّكِ، فَلَيسَ لِلْمَرْءِ شَيْءٌ أَهْلَكَ لِدِينِهِ مِنْ غَلَبَةِ الشَّكِ عَلَى يَقِينِهِ".[1]

 

توصية الإمام عليه السلام بأن يتجنب الإنسان الشك ويلزم اليقين هي بمعنى: السعي وراء مقدمات اليقين، وتجنب مقدمات الشك. وإلا فإن الإنسان لا يسيطر على شكه بحيث يمنعه من الحدوث.

 

وهذا الاستعمال عرفي ومتداول فعندما يقال لك: عليك بالسلامة في قيادة السيارة. فالمقصود من ذلك: وفر مقدمات السلامة. فاستخدم مثلًا: حزام الأمان، التزم بالإشارات المرورية، لتكن قيادتك في حدود السرعة المعقولة، وهكذا. فعندما تلتزم بهذه المقدمات، ينتج عنها السلامة.

 

كذلك عندما يقول الإمام عليه السلام: الزم اليقين. معنى ذلك: هيىء مقدمات الاستيقان، من الوعي والمعرفة – مثلًا – والتركيز والتأمل [2]، وعدم الالتفات لوساوس الشيطان، وما شابه ذلك.

 

وتجنب الشك، يعني: هيىء المقدمات التي تمنع عنك الشك، والتي ترفعه لو حصل! [3] عالج ما يصنعه الشك في نفسك. لماذا؟ يقول الإمام عليه السلام: "فَلَيسَ لِلْمَرْءِ شَيْءٌ أَهْلَكَ لِدِينِهِ مِنْ غَلَبَةِ الشَّكِ عَلَى يَقِينِهِ". يعني ليس هناك أمر أكثر إهلاكًا للدين كما هو غلبة الشك والظن على اليقين.

 

عندما يفسد يقين الإنسان، قد يبدأ بفساد يقينه بالله عز وجل – مثلًا - وأنه على كل شيء قدير، وأنه حلال لكل مشكلة، وأنه رزاق لكل دابة. عندما يفسد يقين الإنسان بهذا المعنى، يقل توكله على ربه، واعتماده عليه، فيلجأ إلى طرق أبواب غير الله عز وجل.

 

يتفرع عليه أنه قد يفسد يقينه بعباداته فيتساءل مشككًا ما الداعي إلى هذه العبادة وما هو المبرر لها؟ ها هو أصبح غير واثق من فائدة الصلاة، أو من آثار الصوم والحج، فلا يعود ينبعث إليها ولا يتحرك باتجاهها، "فَلَيسَ لِلْمَرْءِ شَيْءٌ أَهْلَكَ لِدِينِهِ مِنْ غَلَبَةِ الشَّكِ عَلَى يَقِينِهِ".

 

وقد يعرض الشك على العلاقة الزوجية فيفسدها، وهكذا تتوالي مفاسد هذا الشك كما سيأتي في الحديث عنها. فماذا يعني الشك؟ وما حدوده؟

 

الشك ـ كما قال ابن فارس ـ: (شَكَّ) الشِّينُ وَالْكَافُ أَصْلٌ وَاحِدٌ مُشْتَقٌّ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّدَاخُلِ. مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ شَكَكْتُهُ بِالرُّمْحِ، وَذَلِكَ إِذَا طَعَنْتَهُ فَدَاخَلَ السِّنَانُ جِسْمَهُ. قَالَ فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الْأَصَمِّ ثِيَابَهُ لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْقَنَا بِمُحَرَّمِ وَيَكُونُ هَذَا مِنَ النَّظْمِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذَا شُك وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الشَّكُّ، الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْيَقِينِ، إِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الشَّاكَّ كَأَنَّهُ شُكَّ لَهُ الْأَمْرَانِ فِي مَشَكٍّ وَاحِدٍ، وَهُوَ لَا يَتَيَقَّنُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَمِنْ ذَلِكَ اشْتِقَاقُ الشَّكِّ. تَقُولُ: شَكَكْتُ بَيْنَ وَرَقَتَيْنِ، إِذَا أَنْتَ غَرَزْتَ الْعُودَ فِيهِمَا فَجَمَعْتَهُمَا.[4].

 

كما سبق وأن ذكرنا قبل قليل أن الشك قد يتعلق بأمور؛ فقد يعرض الشك على المبادئ والأفكار. فبينا يعيش الإنسان حياته الدينية العادية، إذ به يحصل له شك، على أثر شبهة من الشبهات، أو سؤال لم يجد له إجابة فقد يكون في قضايا المبادئ، كأن يتساءل: من يقول إن الله موجود؟ وهذه قد لا تصنع تشكيكًا بالنسبة لكثير من الناس. لكنها بالنسبة إلى بعضهم قد تدخل على يقينه فتفسد شيئًا من هذا اليقين.

 

وهذه الأسئلة وما يتفرع منها قد أجاب العلماء والفلاسفة الإلهيون عليها، ودوّنوها لكن من لا يتعرف على تلك الأجوبة، قد لا يستقر اليقين في نفوسهم.

 

إن الموقف الطبيعي السليم في مواجهة هذه الشبهات والإثارات، وهي كثيرة منها ما يرتبط بالله عز وجل ومنها ما يرتبط بالنبي المصطفى صلى الله عليه وآله، وبالذات ما يثيره أساتذة الجامعات في وجه الطلاب المبتعثين وأبناء الجاليات، الموقف الطبيعي في مثل هذه الحالات أن يرده إلى أهل المعرفة والتخصص (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وليس هذا خاصًّا بالموضوع الديني بل في كل المواضيع إذ لا يتيسر للإنسان أن يتخصص في كل الأمور وأن يحيط بها بمعرفة عميقة، وإنما يستفيد من أصحاب التخصصات ويعتمد عليهم.

 

وكما قلنا قد يكون الشك مرتبطًا بالأمور العبادية، وهنا قد يكون الشك فيها من خارجها بمعنى الشك في وجوبها أو فوائدها أو آثارها وهو يرتبط بما سبق، وقد يكون الشك في العبادة من الداخل، بمعنى أن أشك في أعدادها أو كيفيتها أو ما شابه مما له مسار محدد في الفقه الإسلامي..

 

وثالثة قد يكون الشك ذا طابع اجتماعي، مثل الشك في الحياة الزوجية. كأن يشك الزوج في زوجته أنها تقوم بفعل غير منسجم مع الحياة الزوجية، أو عكس ذلك وكيف ينبغي أن يتصرف في مثل هذه الحالات؟

 

وقد يكون الشك ذو الطابع الاجتماعي فيما هو في الدائرة الأوسع كأن يشك بعضهم في العاملين في المجتمع أو في العلماء أو الوجهاء.. ويتأثر منسوب الثقة في هؤلاء بحسب درجة الشك الحاصلة.

 

هل للشك قيمة إيجابية أو سلبية؟

 

بالرغم من أننا نجد أن الفلسفة الحديثة والثقافة التي قامت عليها، تصنف الشك باعتباره قيمة إيجابية عالية، وتنسب إليه التقدم العلمي وبالذات بعد ديكارت، إلا أننا نجد، الآيات القرآنية الروايات، تصنف الشك ضمن الدائرة السلبية، وبالذات منها ما يرتبط بالعقائد وقضايا الإيمان، فقد ورد في تفسير الآية المباركة: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)[5] عن الإمام الصادق عليه السلام، "الرِّجْسُ هُوَ الشَّكُ، وَاللهِ لَا نَشُكُّ فِي رَبِّنَا أَبَدًا" [6]، وهذا أحد التطبيقات والمصاديق للرجس وإلا فالرجس معنى ينطبق على عناوين كثيرة [7]، منها: الذنب، ومنها غيره. وهنا طبقه الإمام عليه السلام على الشك.

 

وفي رواية عن الإمام الباقر عليه السلام، في تفسير قوله تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ)، قال: "شَكًّا إِلَى شَكِّهِم". [8] هؤلاء مرضى القلوب بمعنى الإباء للحق، وعدم الخضوع للهدى، إن يروا آية بينة، بدلًا من أن تزيدهم هدى، مثل حال (الَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى)، تزيدهم شكًّا.

 

ويستطيع الإنسان ملاحظة ذلك في المثال العرفي، فمن يكون لديه احتقان في فمه وحلقه، تكون رائحة فمه غير حسنة، وحتى الطعام الذي يأكله ليس ذا طعم عنده. فلو أنك تعطيه طعامًا طيبًا لا يحس بطعمه الحقيقي. وبدل أن يستطعمه لذيذًا طيبًا قد لا يستسيغه، بينما تستلذه وتستطيبه أنت صحيح البدن. وقد قال الشاعر في تشبيه لطيف:

 

أرى الإحسان عند الحرّ ديناً، وعند النّذل منقصةً وذمّا،كقطر الماء: في الأصداف درّ، وفي جوف الأفاعي صار سمّا.. وفي رواية ثالثة في تفسير قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ)، قال: "بِشَكٍّ"[9]. فجعل الشك مساويًا للظلم، ورأى أن من يخلط إيمانه بشك فإنه كمن يخلطه بظلم واعتداء!

 

يتبين من هذه الآيات المباركات وتفسير المعصومين لها أن الموقف الديني تجاه الشك موقف سلبي لا يستحسنه ولا يحرض عليه.

 

ومن المهم أن نؤصل هذا هنا، ذلك أن الشائع اليوم أن الوضع الثقافي المعاش يعطي قيمة كبيرة للشك، وبدلًا من أن يكون نقطة سلبية كما تتحدث عنه الآيات والروايات، ها هو يصبح قيمة إيجابية، وأصبح الفرد الشكاك في المبادئ الأساسية ينظر إليه كمفكر ومجدد وما شابه [10]!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الريشهري؛ محمد: ميزان الحكمة 2 / 1498

(2) قد يكون من ذلك أن الوظيفة المطلوبة في العبادة من الشاك ألّا يرتب أثر الشك بمجرد حصوله، وإنما مع استقراره، والتأمل في أطراف الشك فإذا حصل له ميل لأحد الأطراف وظن به ـ في عدد الركعات ـ يتبعه ويلغي باقي الأطراف، بل وعلى رأيٍ في سائر نواحي الشك غير الركعات.

(3) لعل أحد النتائج التي تحصل من تطبيق القواعد والأصول الجارية في الشكوك هو رفع أثر الشك من الناحية العملية والوظيفية، فالاستصحاب مثلًا للحالة السابقة ينهي الأثر العملي من الناحية الشرعي للشك الطارئ عليها، وهكذا قاعدة الفراغ مثلًا فإنها تبطل ما يترتب على بقاء الشك في الصلاة السابقة من لزوم فراغ الذمة ولو بإعادة الصلاة، فقاعدة الفراغ تبطل أثر الشك من الناحية العملية، وترتب أثر الصحة على الصلاة السابقة.

(4) معجم مقاييس اللغة 3/ 173

(5) الأحزاب: 33

(6) البروجردي؛ السيد حسين: جامع أحاديث الشيعة 1 / 186

(7) قال المصطفوي في كتابه التحقيق في كلمات القرآن 4/ 56 في كلمة رجس: أنّ ما يظهر من هذه الكلمات ومن موارد استعمال المادّة في الكتاب الكريم وغيرها: أنّ الأصل الواحد فيها هو ما يكون غير مناسب وغير لايق شديدًا بحيث يعدّ في الخارج عند العرف العادلة والعقل السالم مكروهًا وقبيحًا مؤكّدًا.

وهذا الأصل له مصاديق: كالقذر والنجس والخلط والوسخ وكل ما يستقذر والصوت الشديد الخارج عن الاعتدال أو الصوت المكروه والشكّ والكفر واللعنة وما يرتفع في القبح وما لا خير فيه.

(8) المجلسي؛ بحار الأنوار 22/ 68 عن تفسير القمي، ومثله في تفسير القرطبي 8/ 299

(9) الكليني؛ الكافي 2/ 399

(10) لبيان الفرق بين الشك المنهجي، والتشكيك النفسي يمكن الرجوع إلى كتابنا: التشكيك كيف واجهه أهل البيت.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد