قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
عن الكاتب :
فيلسوف، مفسر وعالم دين إسلامي و مرجع شيعي، مؤسس مؤسسة الإسراء للبحوث في في مدينة قم الإيرانية

الهداية التكوينيّة في القرآن الكريم

الشيخ جوادي آملي

... فيما يلي نُشير إلىٰ بعض الآيات الناظرة إلىٰ الهداية التكوينيّة:
أ. ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَه﴾[1]: يظهر من هذه الآية الكريمة أنّ الهداية التكوينيّة يحظىٰ بها الإنسان عندما يقطع جزءًا ومسافة من الطريق.
ب. ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَ﴾.[2] فالهداية الّتي توهب للإنسان بعد الإيمان بالله والجهاد في سبيله هي الهداية التكوينيّة.
ج. ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُم﴾.[3] فالله سبحانه يكافئ الواجدين للهداية من أهل السلوك والعمل، ومكافأتهم هي هداية أيضاً، وهذه الهداية الثانية هداية تكوينيّة وجزائيّة، وبواسطتها يصبح إكمال بقيّة الطريق سهلاً علىٰ السالك، وتكون حركته علىٰ نحو الجذب، حيث يشعر في باطنه أحياناً برغبة تجعله مجذوباً نحو العمل الصالح.
وتارة يجعل الله بهدايته التكوينيّة قلوب الناس تميل إلىٰ المؤمن كجزاء ومكافأة له: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمٰنُ وُدًّا﴾[4] وعندها يكون المؤمن محبوباً لله وكذلك محبوباً لخلق الله، ومن هنا فإنّ عباد الله المحبّين له يدعون له ودعاء القلب المحبّ مؤثّر.
وفي مقابل الجزاء الّذي يُعطىٰ علىٰ نحو الهداية التكوينيّة للمهتدين والمجاهدين، إذا اختار أحد طريق الضلالة والعمىٰ بعد البصيرة والهدىٰ: ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَىٰ الْهُدَىٰ﴾[5] وواجه دين الله بالغطرسة والتكبّر وبعد إمهاله مدّة كي يتوب لكنّه استمرّ في عناده ولم يتب فحينئذٍ سيُسلب منه توفيق فهم الآيات الإلٰهيّة وقبول الحقّ: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ﴾[6] وسيُعيّن له رفيق دائميّ ويُعهد إليه بولايته ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِين﴾.[7]
د. ﴿قَدْ جَاءَكُم مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ٭ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَم﴾.[8] هذه الآية الكريمة تبيّن جيداً الاختلاف بين الهداية التكوينيّة والتشريعيّة، لأنّها من جهة تتحدّث عن النور والكتاب المبين النازل من الله سبحانه لهداية جميع الناس والّذي ذكر في آيات أخرىٰ مثل: ﴿هُدىً لِلنَّاس﴾[9]، ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِير﴾[10] و﴿ذِكْرَىٰ لِلْبَشَر﴾[11]، ومن جهة أخرىٰ تتحدّث عن هداية المؤمنين التابعين والتوّاقين لرضوان الله، والسالكين سبيل الله الّذين لا يتركون طاعة لأجل الله إلاّ وعملوا بها، فالله سبحانه يمسك بأيدي هؤلاء في مرحلة البقاء ويعبر بهم بيسر وسلام جميع عقبات الدنيا المخوفة والمهولة.
(سُبُل السلام) هي السلامة في مراحل الحياة الثلاث: الولادة والموت والبعث، والّتي جاءت علىٰ لسان النبيّ عيسىٰ المسيح (عليه السلام) وأيضاً علىٰ لسان النبيّ يحيىٰ الشهيد (عليه السلام) مع قليل من الاختلاف: ﴿وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّ﴾.[12] فالّذي يعيش بسلام فإنّه يموت بسلام، ومن مات بسلام فإنّه يُبعث يوم القيامة بسلام، وتلك هي الهداية إلىٰ الصراط المستقيم: ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيم﴾.[13]
والهداية إلىٰ سُبل السلام (الإيصال إلىٰ المقصد بسلامة) والخاصّة بطالبي الرضوان الإلٰهيّ هي ذاتها الهداية التكوينيّة، وإلاّ فإنّ الهداية التشريعيّة الّتي تتمّ بإرسال الأنبياء وتبليغ الأحكام بواسطتهم فلا تختصّ بالمؤمنين.
تنويه: إنّ الهداية التكوينيّة بمعنىٰ (الإيصال إلىٰ المقصد بسلام) مختصّة بالمؤمنين وإلاّ فإنّ (الإيصال إلىٰ المطلوب) بمعناه العام غير مختصّ بالمؤمنين، لأنّ الله بهدايته التكوينيّة يوصل الجميع إلىٰ مقاصدهم، سواء كان هدف السالك إلٰهيّاً أم شيطانيّاً فالهداية التكوينيّة للكفّار والفاسقين نحو جهنّم تتمّ أيضاً بأمر إلٰهيّ وبواسطة الملائكة: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيم﴾[14]، لأنّ أحد أنواع العذاب الّتي يواجهها الكفّار في القيامة هو أنّهم يضلّون طريقهم إلىٰ مقصدهم «جهنّم» وبعد شوط من الحيرة والتخبّط تأتي جماعة من الملائكة فتسوقهم إلىٰ جهنّم. والهداية إلىٰ جهنّم هداية تكوينيّة دون شكّ، لأنّه في ذلك اليوم يغلق باب التشريع والتكليف والعمل الاختياريّ وينتهي دوره، كما أنّ هداية أهل الجنّة إلىٰ الجنّة هي هداية تكوينيّة: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهٰذَا﴾.[15]
هـ . ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٭ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ٭ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ٭ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ٭ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾[16] أي مننّا[17] علىٰ موسىٰ وهارون 8 ونصرناهما في الحرب وآتيناهما التوراة وهديناهما إلىٰ الطريق المستقيم. وهذه الهداية ليست هداية تشريعيّة، لأنّها لو كانت هداية تشريعيّة لم تكن لموسىٰ وهارون خاصّة بل لكانت شاملة لجميع بني إسرائيل.
و. ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَدُ فِي السَّماءِ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُون﴾.[18]
أولئك الّذين يريد الله هدايتهم يفتح قلوبهم، والقلوب المفتوحة والمنشرحة لها القدرة علىٰ فهم المعارف العالية: «إنّ هذه القلوبَ أوعيةٌ فخيرها أوعاها»[19] وكلّ من يريد الله أن يضلّه يجعل قلبه ضيّقاً، فالهداية للفئة الأولىٰ والضلالة للفئة الثانية كلتاهما تكوينيّة، لأنّه في نظام التشريع يكون الطريق مفتوحاً للجميع والهداية عامّة للعالمين. وأمّا الهداية الّتي تكون بعد الهداية العامّة الشاملة، والّتي تظهر للسائرين علىٰ الطريق الصحيح وعلىٰ شكل سعة وشرح الصدر وللمنحرفين علىٰ شكل ضيق الروح فهي هداية تكوينيّة.
والصدر الواسع والقلب المنشرح كالبحر العظيم الّذي لو ألقي فيه شيء لم يغيّره وإذا أخذ منه شيء لم ينقصهُ. القلب المنشرح لا يحزن للمصائب الكبيرة ولا يفرح للنعم الضخمة لأنّه ينظر إلىٰ الحالين بأنّهما امتحان واختبار إلٰهيّ.
ز. ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىٰ﴾[20] أصحاب الكهف رجال عظام وفتية آمنوا بربّهم فزاد الله في هدايتهم، فهذه الهداية الّتي تأتي بعد الهداية الابتدائيّة ليست بمعنىٰ تبيين الأحكام، بل هي بمعنىٰ تقوية ورفد السالك وتسهيل حركته نحو الله، وهي الهداية التكوينيّة.
ح. ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيد﴾[21] هداية أهل الجنّة إلىٰ القول الحسن والطيّب هداية تكوينيّة وإلاّ فإنّ الله سبحانه أمر الجميع في الهداية التشريعيّة أن يتكلّموا بالأحسن ويتجنّبوا الكلام المؤذي والقبيح.
ط. ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾[22] يستفاد جيّداً من هذه الآية الكريمة امتياز الهداية التكوينيّة عن التشريعيّة، ونفس هذا المضمون جاء في آية أخرىٰ بهذا النحو: ﴿وَكَذٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾.[23]
والهداية الّتي تتعلّق بفئة خاصّة (من يشاء) هي الهداية التكوينيّة لأنّ الهداية التشريعيّة عامّة لجميع الناس. ومهمّة النبيّ هي تبليغ أحكام الدين إلىٰ جميع الناس: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغ﴾[24]، وليس هناك إلاّ جماعة خاصّة علىٰ أثر قبول الهداية التشريعيّة تتنوّر قلوبهم ويُهدون إلىٰ الصراط المستقيم، وهناك جماعات كثيرة تمتنع عن قبول الهداية التشريعيّة، كما حصل في غدير خُم، حيث أعلن النبيّ امتثالاً لأمر الله له: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّك﴾[25] خلافةَ وولايةَ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) إلىٰ الناس، لكنّ الجميع أعرضوا عنها إلاّ فئة قليلة.

ــــــــــــــــــــــــ

[1] . سورة التغابن، الآية 11.
[2] . سورة العنكبوت، الآية 69.
[3] . سورة محمّد، الآية 17.
[4] . سورة مريم، الآية 96.
[5] . سورة فصّلت، الآية 17.
[6] . سورة الأعراف، الآية 146.
[7] . سورة الزخرف، الآية 36.
[8] . سورة المائدة، الآيتان 15 و16.
[9] . سورة البقرة، الآية 185.
[10] . سورة الفرقان، الآية 1.
[11] . سورة المدّثر، الآية 31.
[12] . سورة مريم، الآية 33.
[13] . سورة المائدة، الآية 16.
[14] . سورة الصافات، الآية 23.
[15] . سورة الأعراف، الآية 43.
[16] . سورة الصافات، الآيات 114 ـ 118.
[17] . المنّة هي النعمة الكبيرة والثقيلة الّتي يصعب حملها، ولم يذكر القرآن الكريم انّ خلق السماوات والأرض ومجموع النظام الكوني بأنّه منّة، لكن عبَّر عن (الرسالة) و(الهداية) بالمنّة: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُول﴾ (سورة آل عمران، الآية 164)، ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَان﴾ (سورة الحجرات، الآية 17).
[18] . سورة الأنعام، الآية 125.
[19] . نهج البلاغة، الحكمة 147.
[20] . سورة الكهف، الآية 13.
[21] . سورة الحجّ، الآية 24.
[22] . سورة القصص، الآية 56.
[23] . سورة الشورىٰ، الآية 52.
[24] . سورة المائدة، الآية 99.
[25] . سورة المائدة، الآية 67.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة