قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

القرآن الكريم والقصة

 

أثر القصّة في حياة الناس:

مع ملاحظة أنّ القسم المهمّ من القرآن قد جاء على صورة تأريخ للأُمم السابقة وقصص الماضين، فقد يتساءل البعض: لِمَ يحملُ هذا الكتاب التربوي كل هذا "التأريخ" والقصص؟!

1 - إِنّ التاريخ مختبر لنشاطات البشرية المختلفة، وما رسمه الإِنسان في ذهنه من الأفكار والتصورات يجده بصورة عينية على صفحات التاريخ.

وبملاحظة أنّ أكثر المعلومات البشرية توافقاً مع الواقع والحقيقة هي التي تحمل جانباً حسيّاً، فإنّ دور التاريخ في إِظهار الواقعيّات الحياتية يمكن دركه جيداً.

فالإِنسان يرى بأُم عينيه الهزيمة المُردية - لأمّة ما - نتيجة اختلافها وتفرقها، كما يرى النجاح المشرق في قوم آخرين في ظل اتّحادهم وتوافقهم.

فالتاريخ يتحدّث بلغة - من دون لسان - عن النتائج القطعية وغير القابلة للإِنكار للتطبيقات العملية للمذاهب والخطط والبرامج عند كل قوم.

وقصص الماضين مجموعة من أكثر التجارب قيمة.

ونعرف أنّ خلاصة الحياة ومحصولها ليس شيئاً سوى التجربة.

والتاريخ مرآة تنعكس عليها جميع ما للمجتمعات الإِنسانية من محاسن ومساوىء ورقي وانحطاط والعوامل لكلّ منها.

وعلى هذا فإِنّ مطالعة تاريخ الماضين تجعل عمر الإِنسان طويلا بقدر أعمارهم حقّاً، لأنّها تضع مجموعة تجاربهم خلال أعمارهم تحت تصرفه واختياره.

ولهذا يقول الإِمام علي (عليه السلام) في حديثه التاريخي خلال وصاياه لولده الحسن المجتبى في هذا الصدد: "أي بني إِني وإِن لم أكن عمّرت عُمْرَ من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عُدت كأحدهم، بل كأنّي بما إنتهى إلي من أُمورهم قد عمرت من أوّلهم إلى آخرهم".

والتاريخ الذي نتحدث عنه طبعاً هو التاريخ الخالي من الخرافات والأكاذيب والتملّقات والتحريفات والمسوخات.

ولكن - وللأسف - مثل هذا النوع من التاريخ قليل جداً.

ولا ينبغي أن نبعد عن النظر ما للقرآن من أثر في بيان "نماذج" من التاريخ الأصيل وإِراءتها.

التاريخ الذي ينبغي أن يكون كالمرآة الصافية لا المقعّرة.

التاريخ الذي لا يتحدث عن الوقائع فحسب، بل يصل إلى الجذور ويسترشف النتائج.

فمع هذه الحال لِمَ لا يستند القرآن - الذي هو كتاب تربوي عال في فصوله -

على التاريخ ويأتي بالشواهد والأمثال من قصص الماضين؟!

2 - ثمّ بعد هذا فإنّ للتاريخ والقصّة جاذبية خاصّة، والإِنسان واقع تحت هذا التأثير الخارق للعادة في جميع أدوار حياته من سنّ الطفولة حتى الشيخوخة.

ولذلك فإنّ التاريخ والقصّة يشكلان القسم الأكبر من آداب العالم وآثار الكتّاب.

وأحسن الآثار التي خلّفها الشعراء والكتاب الكبار سواء كانوا من بلاد العرب أو من فارس أو من بلاد أُخرى هي قصصهم.

فأنت تلاحظ "الكلستان" - لسعدي و"الشاهنامة" لفردوسي و"الخمسة" للنظامي وكذلك آثار "فيجتور هيجو" الفرنسي و"شكسبير" الإِنجليزي و"غوتِه" الألماني جميعها كتبت على هيئة قصص جذابة".

والقصّة سواء كُتبت نثراً أو شعراً، أو عُرضت على شاشة المسرح أو بواسطة الفيلم السينمائي، فإنّها تترك أثراً في المشاهد والمستمع دونها أثر الاستدلالات العقلية في مثل هذا التأثير.

والعلّة في ذلك قد تكون أنّ الإِنسان حسي بالطبع قبل أن يكون عقلياً ويتخبط في المسائل المادية قبل أن يتعمق في المسائل الفكرية.

وكلما ابتعد الانسان عن ميدان الحسّ في نفسها جانباً عقلياً، كانت هذه المسائل أثقل على الذهن وأبطأ هضماً.

ومن هنا نلاحظ أنّه لأجل بيان الإِستدلال العقلي يستمد المفكرين في المسائل الاجتماعية والحياتية المختلفة وتوغل في البعد العقلي من الأمثلة الحسيّة، وأحياناً يكون للمثال المناسب والمؤثر في الإِستدلال قيمة مضاعفة، ولذلك فإنّ العلماء الناجحين هم أُولئك الذين لهم هيمنة على انتخاب أحسن الأمثلة.

ولم لا يكون الأمر كذلك، والإِستدلالات العقلية هي حصيلة المسائل الحسّية والعينيّة والتجريبيّة؟!

3 - القصّة والتاريخ مفهومان عند كل أحد، على خلاف الإِستدلالات العقلية، فإنّ الناس في فهمها ليسوا سواسية... وعلى هذا فإنّ الكتاب الشامل الذي يريد أن يستفيد منه البدوي الأُمّي والمتوحش... إلى الفيلسوف والمفكر الكبير، يجب أن يكون معتمداً على التاريخ والقصص والأمثلة.

ومجموعة هذه الجهات تبيّن أنّ القرآن خطا أحسن الخطوات في بيان التواريخ والقصص في سبيل التعليم والتربية، ولا سيّما إِذ التفتنا إلى هذه النقطة، وهي أنّ القرآن لا يذكر الوقائع التاريخية في أيّ مجال بشكل
عار من الفائدة، بل يذكر معطياتها بشكل يُنتفع بها تربوياً، كما سنلاحظ "النماذج" والأمثلة في هذه السورة.
 

مقتبس من تفسير الأمثل

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة