الخطاب القرآني تميّز بأنه خطاب لكافة الناس بكل مستوياتهم وأجناسهم، وكان أهم ما صرّح به القرآن الكريم أنه كتاب هداية لجميع البشر دون تمييز في ذلك بين رجل وامرأة، بل في مواضع ساوى القرآن في خطابه بين الرجل والمرأة ومواضع أخرى خص أحدهما دون الآخر بناءً على موقعية المخاطب وتكليفه المناط به في هذه الحياة الدنيا. إلا أن نظرة القرآن العامة كانت نظرة للإنسان بغض النظر عن كون هذا الإنسان رجلًا أو امرأة.
فالقرآن الكريم قد وجه خطابه ودعوته وأمره للبشرية، بشكل أساسي على ثلاثة مستويات هي:
المستوى الأول: وفيه توجه الله جل جلاله بالخطاب إلى البشرية عامة، أو إلى بني آدم كلهم على اختلاف أجناسهم وثقافاتهم واعتقاداتهم، دون تمييز بين ذكرٍ أو أنثى.. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[1].
المستوى الثاني: وفيه يوجه الخطاب والدعوة والأمر إلى المؤمنين، وفي كثير من آيات القرآن الكريم يخاطبهم الله سبحانه بعبارة (يا أيها الذين آمنوا)، أو (المؤمنين)، أو (المتقين)، والمقصود بهم رجالًا ونساءً على حد سواء.. قال تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لاَكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾[2]. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾[3]. ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾[4].
المستوى الثالث: يوجه الخطاب والدعوة والأمر للإنسان الفرد، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾[5]. ﴿بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾[6]. ﴿أَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾[7]. ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾[8]. ﴿أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ﴾[9]. ﴿يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ﴾[10].
وكثير من الآيات الأخرى التي تخاطب الإنسان فردًا، والإنسان الفرد يشمل الأنثى والذكر على حد سواء.
وتظهر المرأة في القرآن في ثلاثة جوانب:
الجانب الأول: ككائن بيولوجي واجتماعي.
الجانب الثاني: كمؤمنة.
الجانب الثالث: بكونها من شخصيات القصص القرآنية عن سير الأنبياء ومصير نسائهم[11].
ويقول الشيخ جوادي آملي في كتابه (جمال المرأة وجلالها) بهذا الخصوص: "القرآن لم يأت فقط لهداية الرجل، بل جاء لهداية الإنسان. لذا عندما يشرح هدف الرسالة ويبين غرض نزول الوحي يقول: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس)".[12].
فكلمة الناس المطروحة في القرآن بعنوان (هداية الإنسان) لا تلحظ صنفًا خاصًّا أو مجموعة خاصة، بل تشمل المرأة والرجل بشكل متساو.
فالإسلام هو دين الاعتدال لا الإفراط والتفريط، أعطى تكاليفه وفق المصالح والمفاسد الإنسانية، لا وفق المصالح الجنسية لذكر دون أنثى، أو لأنثى دون ذكر، نعم خصَّ في بعض خطاباته المرأة بما يتناسب ونوعية الخطاب والهدف منه، وخصّ في خطابات أخرى الرجل وكذلك فيما يتناسب والخاطب وغاياته وأهدافه، وهذا اتساقًا مع الاختلاف الطبيعي الذي يؤدي حتمًا لاختلافات في الدور والوظيفة ضمن نطاق محدود، ووضع التكليف وفق المقدرة الإنسانية وقابليتها بحيث لم يفرض ما هو خارج عن طاقة البشر على البشر، حيث قال تعالى في القرآن الكريم: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾[13]. وهذه النفس واحدة عند المرأة والرجل وهو ما صرّح به أيضًا القرآن الكريم حينما قال جل شأنه: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾[14]. فالتكاليف التي أنيطت بالرجل هي وفق قابلياته وقدراته الجسدية، ووفق المصلحة والمفسدة التي تعني إنسانيته، وكذلك المرأة. وهناك فرق كبير بين المساواة والعدل، فكما جاء في موقع الهيئة العامة للاستعلامات المصرية: "جاء الإسلام كدين وسط بين الإفراط والتفريط، فهو يرى أن للنساء فضلًا وللرجال فضلًا، وهذا الفضل يجعل لكل واحد منهما خصوصية يحتاجها الآخر، وبذلك تتكامل أدوار الرجال والنساء. ففضل الرجل هو فضل وظيفي، وفضل النساء هو أيضًا فضل وظيفي، وما ينبغي لأحدهما أن يشعر بالدونية عند القيام بوظيفته التي شرفه الله بها، وفي المنهجية الإسلامية لا تسير قاعدة بمعزل عن السياق العام أو المنظومة الشاملة للقيم، فكما توجد قيمة المساواة توجد أيضًا قيمة العدل.
وتعلو في الإسلام قيمة العدل على المساواة كلما حصل تعارض بينهما. وتعدّ المساواة جزءًا أساسيًّا من العدل؛ والعدل في اللغة هو الحكم بالحق وهو نقيض الظلم والجور، والعدل أيضًا هو الوسطية والتوازن دون ميل أو تحيّز إلى أحد الطرفين ضد الآخر، بحيث يعطي كل منهما حقه دون بخس أو جور عليه".
فهناك فرق بين المساواة أمام القانون في المجتمع، وتكافؤ فرص العمل مثلًا فيه، وبين المساواة التي لا تأخذ في حسبانها الاختلافات الطبيعية ذات البعد البيولوجي الوظيفي، والنفسي السيكولوجي. وهذا لا يعني القبول بمطلق القول الذي يتبنى توزيع الوظائف في المجتمع والأسرة وفق جنس الإنسان على أساس الفروقات البيولوجية، بل يعني أن هناك اختلافًا، وهذا الاختلاف بطبيعة الحال يؤدي إلى الاختلاف في بعض الوظائف المترتبة على الاختلاف البيولوجي والنفسي، كمثال الحمل الذي هو وظيفة المرأة بيولوجيًّا، والرضاعة، والأمومة وهي وظائف منوطة بالمرأة دون الرجل بسبب تركيبتها البيولوجية. وما يترتب على هذه الوظائف من حقوق وواجبات تختلف في طبيعتها عن تلك الحقوق والواجبات الخاصة بالرجل، كونه لا يستطيع في المثال الوارد الحمل والرضاعة وخلاف ذلك، من وظائف اقتضت تركيبة المرأة البيولوجية أن تقوم بها وتترتب وفقها منظومة حقوق وواجبات، ومتعلق الواجبات لا يخرج في كثير من الأحوال عن اختيار المرأة، كون أصل زواجها مرتبطًا باختيارها وموافقتها، بالتالي ما يترتب على هذا الاختيار والموافقة على بناء أسرة من لوازم، خاصة أن الزواج جعلته الشريعة أمرًا مستحبًا وليس واجبًا. وهذا مجرد مثال للتوضيح وليس للحصر.
وعندما نتحدث عن العدالة في التشريع، فهذا لا يعني دعوة لرفض الأحكام التشريعية التي من وجهة نظر بشري لا تحقق العدالة، لأن تحقيق العدالة يتطلب فهمًا كليًّا للأحكام كجسد واحد مترابط، وفهم لمنظومتها الاجتماعية وليس فقط الفردية، وبعد هذه القراءة نحدّد مدى تحقيقها للعدالة الاجتماعية وليس فقط الفردية. أما اجتزاء الأحكام والمطالبة بإعادة قراءتها بطرق عصرية كونها تخالف العدالة من منظور بشري إنساني اجتزائي، فهي دعوة يجانبها الصواب إلى حد كبير.
"نحن اليوم نشهد سعيًا واضحًا لأنسنة الله، وليس لتأليه الإنسان، فالله يصبح مرضيًّا كلما كان إنسانيًّا، والإنسان يمكن أن نضع له مبررات كثيرة لأخطائه مهما كان مجرمًا. فيما لا نتقبل كثيرًا وضع تبريرات لتصرفات الله سبحانه".[15]
كما أن ميزان الأفضلية في الإسلام لم يأت على أساس الجنس، بل جاء على أسس أخرى رسمها لنا القرآن الكريم حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[16]. فالتقوى هي المقياس الإلهي للتفاضل وليس جنس الإنسان. وقد جاء في الروايات الواردة عن الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق (ع) رواية تحدد فيها مفهومه ومفهوم الإسلام عن المرأة فيقول: "المرأة الصالحة خير من ألف رجل غير صالح"؛ وهو يقصد بها أن يقرر أن الإنسانية في نظر الإسلام لها قيمة واحدة وميزان واحد للكرامة بغض النظر عن كل الصفات الطبيعية التي يتميز بها الأفراد، وهذا الميزان الوحيد في نظر الإسلام هو الصلاح والتقوى، والأفضلية عند الإسلام هي أفضلية العمل الصالح. فمهما كان الصلاح هنا متوفرًا كانت الإنسانية أفضل وأكمل. ومهما ابتعد الإنسان عنه خسر بذلك كرامته في مفهوم الإسلام كائنًا من كان. فلا الرجل بما هو رجل يفضل المرأة، ولا المرأة بما هي امرأة تفضل الرجل".[17]
فالمرأة كانت متهمة بأنها أصل الشر لأنها سبب غواية آدم (ع) وخروجه من الجنة كما ورد في الكتب المقدسة بعد تحريفها، فجاء الإسلام ليبرئ ساحة المرأة من هذا الاتهام الخطير الذي ظل يشكل عبئًا عليها في القرون التي سبقت الإسلام، بل أدّى هذا الاتهام النظري إلى تحرك عملي من قبل متبنيه ليمارسوا كل أنواع الظلم والاضطهاد متذرعين بهذه الذريعة، والتي كما ذكرنا برأها الإسلام منها حيث قال الله تعالى في هذا الصدد: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾[18]
وهنا الخطاب واضح أنه موجه لآدم وحواء، وأنهما أغويا كليهما من قبل الشيطان، وليس كما السابقين للإسلام أن حواء سبب غواية آدم.
هذا إضافة إلى المساواة التي تحدث عنها القرآن بين المرأة والرجل في حدود أقرها الله تعالى، تتناسب مع إنسانية كل منهما، داحضًا بذلك كل ما كان يشاع ضدها، بل ما كان يعتبر كعقيدة اعتنقها أصحاب وشعوب الديانات والحضارات السابقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الحجرات، الآية 13.
[2] سورة آل عمران، الآية 195.
[3] سورة النساء، الآية 124.
[4] سورة النحل، الآية 97.
[5] سورة الانفطار، الآيتان 6 و 7.
[6] سورة القيامة، الآية 14.
[7] سورة النجم، الآية 28.
[8] سورة الأحزاب، الآية 72.
[9] سورة الانشقاق، الآية ٦
[10] سورة القيامة، الآية 10.
[11] Brgel، Johann Christof، Allmacht und Mchtigkeit، S. 286، Mnchen “1991
[12] سورة البقرة، الآية 185.
[13] سورة البقرة، الآية 286.
[14] سورة الزمر، الآية 6.
[15] الشيخ حيدر حب الله، المدارات الفكرية ـ دورها في المعرفة وضرورة الوعي الفلسفي بها http://hobbollah.com/articles/المدارات-الفكرية/
[16] سورة الحجرات، الآية 13.
[17] آمنة الصدر(بنت الهدى)، المرأة مع النبي.
[18] سورة البقرة، الآية 36.
عدنان الحاجي
حيدر حب الله
إيمان شمس الدين
الشيخ محمد صنقور
السيد عباس نور الدين
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ فوزي آل سيف
د. سيد جاسم العلوي
محمود حيدر
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ فرج العمران
الإمام الباقر قائد النهضة العلمية، جديد الشّيخ عبدالله اليوسف
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (2)
نوبة الهلع، محاضرة للحبيب في مركز (سنا) للإرشاد الأسريّ
التّدخين عامل رئيس من عوامل نمط الحياة المقترنة بالتّدهور المعرفيّ بين كبار السّن
(جمال، كيف تربّي ابنك اقتصاديًّا) كتاب للدّكتور ماهر السّيف
محاضرة بعنوان: (لباقة الحديث) في جمعيّة العوّاميّة الخيريّة
النقد، رؤية ومنهج وهدف
المصلح وخيار الوعي
معنى الغرام في قوله: ﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا﴾
ختام حملة التّبرّع بالدّمّ (تبرّع تؤجر) في الملاحة