مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشهيدة بنت الهدى
عن الكاتب :
ولدت الشهيدة آمنة بنت آية الله السيد حيدر الصدر (بنت الهدى) عام 1356هــ 1937م في مدينة الكاظمية، عرفت بالذكاء الوقاد، وسرعة الحفظ، وقد لعبت دوراً فعالاً وملموساً في هداية الفتيات، مارست عملها التبليغي عبر إلقاء المحاضرات والكتابة في مجلة "الأضواء" ثم مارست كتابة القصة لمخاطبة الجيل الناشيء بأسلوب قصصي بسيط، من مؤلفاتها: الفضيلة تنتصر، ليتني كنت أعلم، امرأتان ورجل، صراع مع واقع الحياة، لقاء في المستشفى، الخالة الضائعة، الباحثة عن الحقيقة ،كلمة ودعوة، ذكريات على تلال مكة، بطولة المرأة المسلمة، المرأة مع النبي (ص) . استشهدت مع أخيها السيد محمد باقر الصدر عام 1980.

ذكريات على تلال مكة (3)

وهبطنا إلى مطار جدة..

فكان هناك مجموعة من المسافرين قد اصطفوا على شكل نصف دئرة منفتحة، استعدادًا لالتقاط صور تلفزيونية فانتحينا عنهم جانبًا.. فقال لنا قائل: هلّا تفضلتم بالاشتراك؟ إنه فيلم تلفزيوني يعرض على الشاشة كأثر مرئيّ لهذه الرحلات!! ووددت لو أرد عليه قائلة: نحن أيضًا في حالة التقاط صور.. ولكن أتراه كان يفهم ما الذي أعنيه وبهذه العجالة؟ فاكتفيت أن أقول له كلا، ووقفت جانبًا أشاهد الجماعة التي كانت تستعد للتصوير، كان البعض منهم يصلح من مظهره، والبعض الآخر يحاول أن يتقدم ليحتل مكانًا أحسن، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لإنسان يشعر أنه في معرض تصوير، فهو ولا شك يحاول أن يتجنب كل ما يشين من مظهره الخارجي أو يؤثر عليه، لكي يبدو على شاشة العرض بهيًّا متكاملَا في وقفته تلك، وارتسمت في فكري صورة للعرض الأكبر خلال يوم القيامة «يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية» فها هي أجهزة الالتقاط تتوجه نحونا كما كانت تتوجه منذ أصبحنا مشمولين بالتكليف الإلهي في مسؤولية حمل الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان، نعم ولكنها أجهزة التقاط تختلف عن هذه الأجهزة المادية المصطنعة.. إن هذه لا تتمكن أن تسجل سوى الغشاء الخارجي لجسم الإنسان، وحتى هذا فهي لا يسعهاأان تصوره إذا حال بينها وبينه شيء ولو كان غطاء رقيقًا، أما تلك فهي تسجل حتى نظرات العيون وخواطر القلوب..

 

يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.. (ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربك أحدًا) إذن.. فلو عاش الإنسان هذه الحقيقة، ولو أحس بها خلال حركاته وسكناته ولمحاته ونظرات،ه لحرص دائمًا وأبدًا أن يبرز بالشكل المرضي، وأن يحتل مكانًاأاحسن يوم يعرض فيلم حياته أمام البشرية بدون غطاء. ثم.. عرض علينا أن نتحدث أمام شريط للتسجيل لنبشر أهلنا بسلامة الوصول.. عجيب! ولكن أترانا كنا قد وصلنا؟ إن المسافر لا يسجل لنفسه الوصول إلا إذا وصل إلى النقطة التي انطلق نحوها منذ البداية -ونحن كنا في انطلاقتنا تلك متوجهين نحو هدف معين لم يحققه لنا الوصول إلى مطار جده- ألم نكن سائرين في ركاب هذه الآية الكريمة «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا».. إذن فأين نحن من الحج؟ وأين نحن من السلامة؟ سلامة الجسد لا تعني شيئًا في حساب الراحل إلى الله، ولكن هي سلامة العمل وصحة الأداء، فما أكثر سلامة الأجساد، وما أقل سلامة الأعمال..

 

 وصعدنا إلى مدينة الحاج

وهي عمارة كبيرة تتألف من طوابق عديدة، تحيطها عمارات وغرف واسعة، وتشرف من إحدى جوانبها على ساحة المطار، ومن خصائصها أنها ومع جميع ما قد تسبب الإقامة فيها من مضايقات.. أنها تبعث في نفس الإنسان نوعَا من الانشراح والانطلاق، وكأنها مرحلة انتقال شيقة، ثم أنها المنزل الأخير الذي ننطلق منه نحو بيت الله الحرام، وكانت الغرفة التي توجهنا نحوها جانبية تطل على بعض شوارع مدينة جدة ومدخل مدينة الحاج، واجتمعنا لأول مرة نحن النساء المسافرات ضمن القافلة في غرفة واحدة، وبدأنا نتصفح الوجوه في تطلع لهفان، ووددنا لو وجدنا أثرًا لطابع مميز يشمل الجميع طابع الشعور بالوحدة المنطلقة من وحدة الغاية واتحاد الهدف في الحج.. ولكن..

 

وقمنا ببعض المحاولات للتعرف على رفيقات السفر، فكان فيهن من تستجيب بتحفظ، وفيهن من تلوي جيدها في شيء من اللامبالاة (عدا من كانت معرفتنا بهن تسبق حدود هذه السفرة طبعًا) وقد كان الشعور الغالب على بعضهن هو التطلع إلى ما في أسواق جدة من جديد!! وبما أننا كنا قد أحرمنا من مطار بغداد، فقد عرضنا ذلك لبعض الأسئلة عن الأسباب التي دعتنا إلى تقديم الإحرام، فأخذنا نشرح طبيعة الحكم الشرعي في ذلك، وكيف أن الإحرام يجب أن يكون من أحد المواقيت الخمسة: الجحفة . يلملم . قرن المنازل . مسجد الشجرة . وادي العقيق . ولا يصح الإحرام من غيرها إلا بنذر شرعي، والنذر الشرعي لا ينعقد إلا إذا كان المكان الذي ينذر الإحرام منه أبعد عن مكة من الميقات أو بمحاذاته، ومن أجل نفس هذا الحكم كنا نشاهد في مدينة الحاج مجاميع من الحجاج وهم في طريقهم إلى الجحفة من أجل عقد نية الإحرام، والجحفة تبعد عن جدة بمقدار ( 180 ) كيلومتر تقريبًا، وبتنا ليلتنا في مدينة الحاج، وكنا نحرص بعد أداء كل فريضة أن نراجع أحكام الحج في المنسك الذي صحبناه معنا، فنعيد قراءة ما عرفناه، ونتأكد من معرفة ما جهلناه، ونتبادل نحن الستة شرح أعمال الحج، ونؤكد على أعمال العمرة، لأنها أول فريضة تنتظرنا في مكة، ولم يكن هذا من أجل إهمال في التحضير من قبل أو غفلة عن سير أحكام الحج وأعماله، ولكنه كان على سبيل التأكيد والتجديد، ثم إنه من أجل فتح المجال أمام الأخريات للسؤال إذا كن في ريب من عمل أو شك في حكم من الأحكام.

وكانت أهم نقطتين واجهتنا في إصلاح إحرام المحرمات من حولنا هي أولا: أنهن كن يتجردن عن الجوارب فور عقدهن لنية الإحرام، ويستعضن عنها بلبس السروال الطويل، وذلك في اعتبارهن لسببين: أحدهما وجوب إظهار ظهر القدم حال الإحرام، وثانيهما جواز إبداء القدم أمام الرجال، ظنًّا منهن أن جواز كشف ظهر القدم حال الإحرام ليس إلا احتياطًا استغنى عنه التشريع لعدم تأكده. هذا مع تأكد حرمة كشف القدمين أمام الرجال الأجانب، وعدم وجود مجال لمقايستها مع الكفين، فالإسلام حينما شرع الستر للمرأة كصيانة لكيانها ووقاية لوجودها الخاص ووجودها العام ضمن المجتمع، وتجنيب لها وللمجتمع مغبة تكشفها أمام الرجال، حينما شرع ذلك لم يرد من وراء ذلك التشريع عزل المرأة عن الحياة أو حبسها عن مجالات التعايش السليم الطاهر مع المجتمع. ولهذا فقد أجاز لها كشف الوجه والكفين لأنهما كل ما يحتاجه الإنسان، وأي إنسان رجلًا كان أو امرأة، حينما يتفاعل مع الحياة في مختلف المجالات، إن أي عمل أو علم لا يحتاج إلى ابراز الكتفين أو إبراز جدائل الشعر مثلًا، ولكنه قد يكون في حاجة إلى كشف الوجه والكفين، وهذان هما ما أجاز التشريع للمرأة أظهارهما عند الحاجة، أما القدمان فما هو الشيء الذي يتوقف على كشفهما يا ترى؟ وما هو الأثر غير المرضي الذي يتركه سترهما في مجالات الحياة؟ لا شيء أبدًا ولهذا وجب علينا ستر القدمين، وأبيح لنا كشف الكفين هذه هي النقطة الأولى.. أما النقطة الثانية.. فهي عدم إتقان مقدار ما ينبغي كشفه من الوجه حال الإحرام!! فنحن إذ نعرف أن إحرام المرأة بوجهها ينبغي أن تلتزم بكشف الوجه من قصاص الشعر وحتى الذقن لا أكثر ولا أقل، ولعل هذا يفتقر إلى شيء من الدقة، ولكن أهمية فريضة الحج عميقة وكبيرة جدًّا، أفلا تستحق قليلًا من الدقة والالتزام؟!

 

وركبنا السيارة في طريقنا إلى مكة.. وهي سيارة كبيرة حمراء غير مكشوفة، كتب عليها بالخط الابيض العريض كلمة (التوفيق) وكان هناك سيارة حمراء أخرى تساير سيارتنا وقد ركبها رجال القافلة، ولم تكن تلك لتختلف عن هذه إلا بكونها مكشوفة السقف تمشيًا مع الحكم الشرعي الذي لا يجيز للرجل المحرم الاستظلال بالظل المتنقل، وما إن تحركت بنا السيارة حتى وجدت نفسي غارقة في دوامة من الانفعالات المختلفة، التي هي مزيج بين الرضا والخوف والرهبة والرغبة والفرحة والحسرة.. وانطلقت أردد على لساني كلمات التلبية «لبيك اللهم لبيك» إنها استجابة للنداء الخالد الذي أمر الله نبيه إبراهيم (ع) أن يطلقه في آذان البشرية ولكن أتراها استجابة كاملة؟ إن التلبية تكون مخلصة صادقة إذا نطق بها اللسان وأوحاها الفكر وصدقها القلب وأكدها العمل. إن حركة اللسان وحدها لا تكفي بإعطاء مفهوم التلبية إلا إذا تضافرت معها جميع الجوارح لدى الإنسان، «لبيك لا شريك لك لبيك» إنه إقرار بالوحدانية وتأكيد على العبودية المطلقة «إن الحمد والنعمة لك والملك» نعم إن الحمد لله وحده لأنه وحده صاحب كل نعمة ومصدر كل رحمة، فهو المحمود الأول في كل ما يحمد عليه، وهنا تذكرت كلمة للإمام: إن شكري إياك يحتاج إلى شكر، أن يكون الإنسان مقرًّا بالحمد والشكر لله لهي السعادة ما فوقها سعادة، لما يتضمن ذلك الإقرار من مصادر رحمة وينابيع رضوان، «إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك» ومرة ثانية يتكرر في كلمات التلبية الإقرار بالوحدانية، هذه الوحدانية التي تنطلق عنها وحدة الهدف ووحدة الغاية، لكي يكون القصد في العبادة متوجهًا بمجموعه نحو الله، نزيهًا عن الرياء، بعيدًا عن الخيلاء، نقيًّا من شوائب الغرور وحب البروز أو الظهور، خاليًا مما يوجب الشرك المنافي لخلوص الأعمال لله، ومن أجل طاعة الله..

واندمجنا مع كلمات التلبية حتى شارفنا (الحديبية) وهي أول حدود الحرم للقادم من جدة، وهناك وجدنا السيارة الحمراء المكشوفة (سيارة الرجال) تنتظر! وأعلن لنا عن ضرورة تجديد نية الإحرام لمن أحرم من جدة! واستغربت الأمر! لأن الحديبية ليست ميقاتًا للقادمين من العراق! وعلى كل حال فقد وقع الكثير من الهرج والمرج بين المحرمات المسكينات، فتارة يطلب منهن النزول وأخرى يطلب منهن العودة إلى مقاعدهن، ثم تتلى عليهن نية الإحرام من خارج السيارة، وعن طريق مكبر للصوت، فتأتي الكلمات ضعيفة غير واضحة، فتتصاعد كلمات احتجاجهن «لم نسمع لم نعرف ماذا قال» ومضت فترة صخب بين قيل وقال ثم انتهت بسلام والحمد لله . وكنا نحن المحرمات من بغداد نحمد الله ما وفقنا إليه من صحة الإحرام وعدم احتياجه إلى تجديد أو إتمام، ثم سارت بنا السيارة من جديد وكنا نشعر أن كل ميل تطويه عجلاتها (الكليلة) تقربنا نحو الهدف، فتخفق لذلك قلوبنا، وكأنها تحاول أن تبعث من طاقاتها الحرارية قليلًا من الحرارة في السائق الذي كان يبدو وهو لا يريد أن يكلف نفسه عناء الضغط على البنزين، كانت أرواحنا تهتز مع طي الطريق في نشوة روحية خالصة، فتود لو سابقت هذه العجلات الثقيلة التي لا تكاد تستجيب للمحرك بسهولة، وهي لا تعلم ولا تشعر بما تحمل من شحنات آمال تتمنى لو سابقت الريح في الوصول إلى رحاب الله، وأخيرًا وبعد مضي ما يقرب من ساعتين بدت لنا من بعيد معالم مكة.. فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله..

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد