وتوجهنا إلى مقام إبراهيم لنصلي إلى جواره أو خلفه صلاة الطواف، وهي ركعتان كصلاة الصبح لا تختلف عنها إلا بالنية فقط، وكانت تلك البقعة المباركة مليئة بالمصلين، ولولا شمولنا بعين عناية الله ورحمته، لتعذر علينا أن نجد لنا مصلى هناك، وبدأنا نصلي على التعاقب لكي تحرس كل أربع منا المصلية الواحدة، مخافة أن تتعرض لما يفسد صلاتها من آثار الزحام...
ومن هنا تبرز حقيقة جديدة لعميق أهمية الصلاة في حياة الإنسان، فهي تواكب حياته في اليوم خمس مرات، وهي ترافقه حتى في عبادة الحج، لكي لا يبتعد عن هذه الصلة الوثيقة التي تشده بالخالق دائمًا وأبدًا، إنها ركعتان لا غير، ولهذا فهي صغيرة إذا قيست مع حجم عبادة الحج الكبير، وضخامة أعماله وواجباته، ولكنها مع ركعاتها القليلة كانت ركنًا من أهم أركان الحجّ يجب الإتيان بها مع اتقان الكلمات، والتأكد من الحركات وخلوص النية في الأداء.
«وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى..» إنها سلاح هذه الصلاة، سلاح يجند الإنسان المصلي، ليقف في خط الدفاع، يدافع بها عن روحه ليحتفظ بها قوية عزيزة لا تعرف الخضوع لغير الله، ولا تلتمس الرجاء إلا من عند الله «إياك نعبد وإياك نستعين» ويدافع بها عن فكره، لكي لا يشمله الخمول أو يرهقه الشذوذ أو تتبعه الحيرة والضيعان والتذبذب والتيهان «اهدنا الصراط المستقيم» ويدافع بها عن وجوده كله، عن أعصابه لكي لا يشدها اليأس، وهو يتمكن أن يدعو من خلالها قائلًا ربنا آتنا في الدنيا حسنة في الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» وعن أعضاء جسمه لكي لا يضعفها الخمول أو يوهنها الجمود، فيبعث فيها الحركة باتباعه لرياضة الصلاة وتفاعلها الصالح مع كل عضو من أعضائه، وله أن يعبر عن ذلك خلال تحركاته فيها قائلًا «بحول الله وقوته أقوم وأقعد»..
نعم إنها سلاح قوي لا غنى للإنسان عنه، ولهذا نجده يواكب حياة الإنسان ليجعله دائمًا وأبدًا قويًّا في دينه، ثابتًا في عقيدته، صلبًا في إرادته وأبعاد وجوده، وانتهينا من الصلاة، وكانت صلاتنا خلف المقام المبارك بمكان قريب والحمد لله، وكان علينا أن نتوجه بعد ذلك للسّعي، وقد كنا نشعر بالتّعب ولكن ومن جديد عرفنا.. كيف يتبلور التعب عن راحة، وكيف يتفتح العناء عن طاقات سعادة، عرفنا كيف يستحيل العذاب إلى عذوبة، وكيف تهب المرارة معنى الحلاوة، كانت قلوبنا تخفق بشدة، ولكننا لم نكن نعرف من تتابع خفقانها أنها مرهفة، ولم نكن نجد في تلاحق ضرباتها أنها مجهدة –كلا- ولكننا كنا نحس بالشوق يستغذها، ونستشعر الفرحة وهي تداعبها، فنجدها وكأنها ضائعة بهذا الكيان الذي يحبسها ويفرض عليها قيوده والتزاماته، تواقة لأن تنطلق في رحاب هذا البيت، لائذة بالحرم كالحمام الوديع، أو ملحقة في أجوائه كالملاك الطاهر، أو مرفرفة حول قواعده كالنسمات العذاب، ولهذا لم نكن نريد أن نجلس لنستريح، وإنما ذهبنا تحت خطى الشوق واللهفة إلى المسعى المبارك..
ووقفنا بين الصفا والمروة...
وهو رواق بنيت سقوفه وجدرانه من المرمر الخالص، وامتد في وسطه صفان الدارابزون، لا يتعدى الفاصل بينهما المترين، تتخللهما بين كل مسافة قصيرة فتحة متوسطة الاتساع من أجل مرور المستطرقين، وكان أعداد هذين الصفين من أجل حصر السعاة الراكبين بينهما حفاظًا على راحة السعاة المشاة، والسعي يختلف عن الطواف بحرية السير فيه أو الركوب فللإنسان الساعي أن يختار الركوب إذا أراد، حتى ومع تمكنه من السير، وذلك ما لا يصح خلال الطواف إلا عند العجز الكامل أو الضرورة القصوى، وكان هذا الرواق الطاهر يقع بين ربوتين أو جبلين مجدبين، أحدهما وهو الصفا تعتليه قبة منبسطة العمق، والثاني الذي هو المروة يكون سقفه مستويًا إلا من تعاريج البناء، ويبلغ طوله حوالي الميل والنصف، ومن الصفا كان يجب علينا أن نبدأ السعي، فارتقينا هضبته المباركة، وأدينا نية السعي قائلات «أسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط لعمرة التمتع إلى حج الإسلام لوجوبه امتثالًا لأمر الله سبحانه وتعالى» ثم بدأنا نسير سيرًا رتيبًا يتخلله الدعاء والابتهال، وكانت الأصوات من حولنا تتصاعد قائلة: «إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرًا فإن الله شاكر عليم».
فما أروع أن تصبح الخطوات وهي مسيرة مؤدية لشعائر الله، وما أضخم الحقيقة التي يشترك في الانصياع إليها وجود الإنسان بجميع أبعاده وجوارحه وأحاسيسه. إنها حقيقة العبادة بشمولها الواسع لشخصية الإنسان منها هو السعي لا يتطلب من الحاج سوى نقل أقدامه فوق أرض منبسطة ملساء، ولكن ومع كل خطوة ترتسم صورة للعبادة وخلال كل شوط يسجل رقمًا لأداء الواجب. وبعد أن أنهينا أشواطًا أربعة جلسنا على مرتفعات الصفا لنسترد شيئًا من الراحة لأجسامنا وأقدامنا التي أرهقها المسير ومن هناك انطلقنا نفكر.. فعدنا بأفكارنا إلى حيث سعت السيدة هاجر أم إسماعيل وهي تفتش عن ماء تروي به ظمأ وليدها الغالي فهي تنطلق تبحث لتعود.. وتعود لتنطلق من جديد وهي في كل هذا موزعة القلب بين طفل ضامىء وأمل في وجود ماء. نعم.. لقد لاقت هاجر الكثير من التعب والنصب وتعرضت لشديد محنة وأذى، ولكن وبما أن ما لاقته وما تعرضت إليه كان في سبيل الله ومن أجل الانصياع إلى أوامر الله، فما زالت كل هذه الملايين من الأقدام السائرة في كل موسم في كل عام، ما زالت تتقصى آثار تلك الأقدام الطاهرة في مسيرتها المباركة، ثم ألم تكن هاجر امرأة؟ إذن أفلا يمكن لنا أن نعد هذا الجانب من الحج هو تخليد لجهود المرأة في عالم العبادة والفداء؟ ثم ألا يمكن لناأان نعرف من هذا أيضًا أن المرأة قادرة على رسم خطوط بارزة في ميدان العمل والجهاد؟
وعدنا إلى إكمال أشواطنا السبعة بعد فترة استراحة وتفكير.. وأنهينا الأشواط السبعة على هضبة المروة، وكنا قد صحبنا معنا مقراضًا صغيرًا من أجل التقصير، إذ يجب علينا عند الانتهاء من السعي أن نقصر قليلًا من شعر رأسنا، أو نقلم قليلًا من أظفر يدنا. وقد احتطنا، فجئنا بالتقصيرين وبذلك انتهينا من عمرة التمتع للحج.. فالحمد لله على ما هدانا والشكر له على ما وفقنا إليه..
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد باقر الصدر
السيد عادل العلوي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العلاقة بين المعجزة والوحي
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (5)
الزهراء.. الحزن الأبدي
ذاكرة التفاصيل لا يكتمل بلوغها إلا في سن المراهقة عند الأطفال
الصّحيفة الفاطميّة
السّعيد محاضرًا حول آليّات التّعامل الإيجابيّ مع الإنترنت والوسائل الرّقميّة
منتظرون بدعائنا
الشيخ صالح آل إبراهيم: ما المطلوب لكي يكون الزواج سعيدًا؟
آيات الأنفس الأولى
فرضية القائلين بالتكامل، وعدم وجود الحلقة المفقودة