ذهب لفيف من متكلّمي الإسلام - وللأسف الشديد - إلى جواز التكليف بما لا يطاق، ولم يُصغوا لنداء العقل ولا الشرع، بل أهالوا التراب على فطرتهم القاضية بعدم صحّة التكليف بما لا يطاق.
وقد اتَّخذوا ظواهر بعض الآيات ذريعة لعقيدتهم في هذا المجال، وها نحن نستعرض تلك الآيات ونناقشها كي يتجلّى الحق.
1. (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * أُولَٰئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ). (1)
استدل الإمام أبو الحسن الأشعري (260 - 324 ه) على أنَّهم كانوا مكلَّفين بالسماع والإبصار ومع ذلك ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يُبصرون، فدلّ على جواز التكليف بما لا يطاق.
وهذا الاستدلال يتبدَّد بالتوضيح التالي:
وهو أنَّهم وإن كانوا مأمورين مكلّفين بالسماع والإبصار ومع ذلك كانوا عاجزين عنهما لكن ذلك العجز لم يكن مقروناً بهم منذ بلوغهم وتكليفهم، وإنّما أدّى بهم التمادي في المعصية إلى أن صاروا فاقدين للسمع والأبصار، فقد سُلِبت عنهم هذه النعم بسوء اختيارهم نتيجة الذنوب التي اقترفوها، فكان لهم قلوب لا يفقهون بها، وآذان لا يسمعون بها، يقول سبحانه: (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ). (2)
إنّ التمادي في المعصية والإصرار عليها يترك انطباعات سيِّئة في القلوب على وجه يتجلّى الحسن سيّئاً والسيّء حسناً، يقول سبحانه: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ). (3)
فالآية تصرح بأنّ اقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي ينجم عنه التكذيب بآيات الله.
فتحصل من ذلك أنّ عدم استطاعتهم للسماع والإبصار كان نتيجة قطعية لأعمالهم السيئة، كما يقول سبحانه: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ). (4)
2. (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ). (5)
استدلّ الإمام الأشعري بهذه الآية على جواز التكليف بما لا يطاق، وقال: فقد أمروا بالإعلام وهم لا يعلمون ذلك ولا يقدرون عليه.
ولكن غاب عنه أنّ لصيغة الأمر معنى واحداً وهو إنشاء الطلب، لكن الغايات من الإنشاء تختلف حسب اختلاف المقامات، فتارة تكون الغاية من الإنشاء، هي بعث المكلف نحو الفعل جدّاً، وهذا هو الأمر الحقيقي الذي يُثاب فاعله ويُعاقب تاركه، وتشترط فيه القدرة والاستطاعة، وأُخرى تكون الغاية أُموراً غيره، وعند ذلك لا ينتزع منه التكليف الجدي، وذلك كالتعجيز في الآية السابقة، وكالتسخير في قوله سبحانه: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (6) والإهانة مثل قوله: (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (7)، أو التمنّي مثل قول أمرئ القيس في معلّقته:
ألا أيُّها الليل الطويل ألا انجلي
بصُبحٍ وما الإصباحُ مِنكَ بأمثلِ
إلى غير ذلك من الغايات والحوافز التي تدعو المتكلم إلى التعبير عن مقاصده بصيغة الأمر وذلك واضح لمن ألقى السمع وهو شهيد.
3. (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ). (8)
استدلّ بها الشيخ الأشعري على مقصوده، وقال: إذا جاز تكليفه إياهم في الآخرة بما لا يطيقون، جاز ذلك في الدنيا.
والحقّ أنّ الإمام الأشعري وأتباعه لا سيّما الفطاحل منهم أجلُّ من أن يجهلوا هدف الآية ومغزاها، إذ ليست الدعوة إلى السجود فيها عن جدّ وإرادة حقيقة، بل الغاية من الدعوة إيجاد الحسرة في قلوب المشركين التاركين للسجود حال استطاعتهم في الدنيا، والآية بصدد بيان أنّهم في أوقات السلامة والعافية رفضوا الانصياع والامتثال، وعند العجز - بعد ما كشف الغطاء عن أبصارهم ورأوا العذاب بأُمّ أعينهم - همّوا بالسجود ولكن أنّى لهم ذلك.
وإليك توضيح الآية بمقاطعها الثلاثة:
أ: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ) كناية عن اشتداد الأمر وتفاقمه، لأنّ الإنسان عند الشدة يكشف عن ساقه ويخوض غمار الحوادث.
ب: (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) لا طلباً وتكليفاً جدياً، بل لازدياد الحسرة، فلا يستطيعون، إمّا لسلب السلامة عنهم، أو لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم.
ج: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) والمعنى أنّهم لما دعوا إلى السجود في الدنيا امتنعوا عنه مع صحّة أبدانهم، وهؤلاء يُدعون إلى السجود في الآخرة ولكن لا يستطيعون، وما ذلك إلا لتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرَّطوا.
4. (وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا). (9)
وقد استدل بها الشيخ الأشعري على ما يروم من جواز التكليف بما لا يطاق، وقال: وقد أمر الله تعالى بالعدل ومع ذلك أخبر عن عدم الاستطاعة على أن يُعدل. (10)
أقول: لا شكّ أنّه سبحانه أمر من يتزوج بأكثر من واحدة بإجراء العدالة بينهنّ، قال سبحانه: (فَإِنْ خِفْتُمْ إلّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) (11) وفي الوقت نفسه صرَّح في آية أُخرى بأنَّ إجراء العدالة بينهنّ، أمر غير مقدور، ومع ذلك نهى عن التعلّق بواحدة منهن والإعراض عن الأُخرى حتى تُصبح كالمعلّقة لا متزوجة ولا مطلقة.
وبالتأمل في الآية يظهر بأنّ العدالة التي أمر بها غير العدالة التي أخبر عن عدم استطاعة المتزوج القيام بها، فالمستطاع منها هو الذي يقدر عليه كلّ متزوج بأكثر من واحدة، وهو العدالة في الملبس والمأكل والمسكن وغيرها من الحقوق الزوجية التي تقع على عاتق الزوج ويقوم بها بجوارحه ولا صلة لها بباطنه.
وأمّا غير المستطاع فهي المساواة في قسمة الحب بينهنّ لأنّ الباعث لها هو الوجدان والميل القلبي وهو ممّا لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره، لأنّه رهن أُمور خارجة عن الاختيار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). هود: 19 - 20.
(2). الأعراف: 179.
(3). الروم: 10.
(4). الملك: 10 - 11.
(5). البقرة: 31 - 32.
(6). البقرة: 65.
(7). الدخان: 49.
(8). القلم: 42 - 43.
(9). النساء: 129.
(10). لاحظ الاستدلال بهذه الآيات في كتاب اللمع للإمام الأشعري: 99 - 114.
(11). النساء: 3.
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ شفيق جرادي
السيد جعفر مرتضى
حيدر حب الله
إيمان شمس الدين
السيد عباس نور الدين
فريد عبد الله النمر
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ فرج العمران
الاستقرار العائلي... الزهراء مثالًا
(لوحة وفنّان) فعالية فنية لنادي (همسات) في الأحساء
سيدة نساء العالمين
طريق أقصى
لا يؤمن الدّهر الخؤون على أحد
الزَهراءُ: جَنازةٌ.. كالخَيال!
آل عطيّة تتحدّى إعاقتها وتقدّم ورشة في (فن الكروشيه)
السَيّدةُ الزهراءُ: خُزانةُ أَسرارِ الحُزن
يا ممتحنة امتحنك الله
مرضُ القلب، خروجُه من استقامة الفطرة