لقد تعرض الباحثون في علوم القرآن لهذا البحث، وذكروا لإثارته سببين:
الأول: إن القرآن الكريم كتاب هداية ونور مبين، ووجود المتشابه فيه لا يتفق مع هذه الحقيقة، لأن المتشابه لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم.
الثاني: ما أشار إليه الفخر الرازي ونسبه إلى الملاحدة: إن وجود المتشابه في القرآن كان سببًا لاختلاف المذاهب والآراء، وتمسك كل واحد منها بشيء من القرآن بالشكل الذي ينسجم مع متبنياته، وهذا يناقض الأهداف التي جاء من أجلها القرآن الكريم.
ولذا عمل الباحثون في علوم القرآن على استكشاف وجوه الحكمة في وجود المتشابهات في القرآن، وعلى هذا الأساس ذكرت وجوه متعددة ومختلفة تتأرجح بين الضعف وغاية القوة والمتانة (1).
الأول: ما ذكره الشيخ محمد عبده: إن الله سبحانه أنزل التشابه ليمتحن قلوبنا في التصديق به، فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب واضحًا لا شبهة فيه عند أحد من الأذكياء ولا من البلداء، لما كان في الإيمان به شيء من معنى الخضوع لما أنزل الله تعالى، والتسليم لما جاءت به رسله (2).
وقد ناقشه العلامة الطباطبائي بأن الخضوع هو انفعال معين، وتأثر خاص من قبل الضعيف في مقابل القوي، ولا يكون ذلك من الإنسان إلا لما يدرك عظمته، أو لشيء لا يتمكن من إدراكه لعظمته وكبره، كقدرة الله وعظمته وسائر صفاته التي إذا واجهها العقل رجع القهقرى لعجزه عن الإحاطة به، وهذان الأمران غير واردين في المتشابه، لأنه وإن كان من الأمور التي لا يدركها العقل ولا ينالها، ولكنه يغتر باعتقاده لإدراكها وحينئذ قد يزيغ الإنسان فيغتر بإدراكه لكنهه، ومن هنا جاء تمحيص القلوب بالمتشابه، فإذا صدق الإنسان به واستسلم له فهو قد ثبت على الإيمان، وإذا اغتر به وحاول معرفة تأويله فقد زاغ قلبه.
وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم حيث قال: (... والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا...) (3) فهو شيء تمحص به القلوب، فمن كان في قلبه مرض وزيغ اتبعه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
ولكن هذا التفسير إنما ينفع في بعض آيات المتشابه، التي هي من قبيل مفاهيم عالم الغيب، كاللوح والعرش والقلم، حيث يكون موقف الإنسان منها هو الإيمان المطلق بها، وأما الآيات المتشابهة التي يمكن فهمها بعد عرضها على المحكم فلا بد أن يكون لوجودها غرض آخر وهو الهدى المترتب عليها.
الثاني: ما ذكره الشيخ محمد عبده أيضًا: أن وجود المتشابه في القرآن كان حافزًا لعقل المؤمن إلى النظر، كي لا يضعف فيموت، فإن السهل الجلي جدًّا لا عمل للعقل فيه، والعقل أعز القوى الإنسانية التي يجب تربيتها، والدين أعز شيء على الإنسان، فإذا لم يجد العقل مجالًا للبحث في الدين يموت عامل العقل فيه، وإذا مات فيه لا يكون حيًّا بغيره (4).
وقد ناقشه العلامة الطباطبائي: إن القرآن الكريم اهتم بالعقل وتربيته اهتمامًا بالغًا، فأمر باستعمال العقل في الآيات (الآفاقية) (والأنفسية) إجمالًا في بعض الموارد، كما فصل ذلك في موارد أخرى، كالأمر بالتدبر في خلق السماوات والأرض والجبال والشجر والدواب والإنسان واختلاف الألسنة والألوان، كما حث على التفكير والسير في الأرض والنظر في أحوال الماضين، وحرض العقل والفكر ومدح العلم بأبلغ المدح، وفي كل ذلك ما يغني عن سلوك طريق آخر هو إنزال المتشابهات الذي يكون مزلقة للأقدام ومصرعًا للعقل (5).
الثالث: ما ذكره الشيخ محمد عبده أيضًا: أن الأنبياء بعثوا إلى جميع الأصناف من عامة الناس وخاصتهم، وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد، وهناك من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه، بحيث يفهمه الجميع على السواء، وإنما يفهمه الخاصة منهم عن طريق الكناية والتعريض، ويؤمر العامة بتقويض الأمر فيه إلى الله تعالى عند حد المحكم، فيكون لكل نصيبه على قدر استعداده (6).
وقد ناقشه العلامة الطباطبائي: بأن الكتاب الكريم كما يشتمل على المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات التي تبين هذه المتشابهات عند الرجوع إليها، ولازم ذلك أن لا تتضمن المتشابهات من المعاني ما هو أزيد مما تكشف عن المحكمات، وعند ذلك يبقى سؤالنا: (ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب وأي حاجة إليها مع وجود المحكمات؟) على حاله.
والسبب في هذا الاشتباه الذي وقع فيه الشيخ محمد عبده: أنه أخذ المعاني نوعين متباينين:
الأول: معان يفهمها جميع المخاطبين من العامة والخاصة وهي مداليل المحكمات.
الثاني: معان لا يدرك حقيقتها إلا الخاصة ولا يتلقاها غيرهم وهي المعارف الإلهية والحكم الدقيقة، فكان من نتيجته أن من المتشابهات ما لا ترجع معانيها إلى المحكمات، وقد مر أن ذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالة على أن القرآن يفسر بعضه بعضًا وغير ذلك (7).
ويمكن أن نلاحظ على المناقشة: أنه ما هو الشيء الذي يمنع من وجود هذين القسمين من المعاني؟
إذا كان المانع من ذلك هو ما يشير إليه العلامة الطباطبائي من أمومة المحكمات للمتشابهات... فقد عرفنا أن هذه الأمومة لا تعني أكثر من وضع حدود خاصة معينة للمتشابهات تمنع عن الزيغ فيها، وتسقط من الحساب جميع الصور والتجسيدات غير المنسجمة مع روح القرآن.
وهذا لا يعني تحديد الصورة الحقيقية للمعنى المتشابه، وتعيينها في مصداق خاص حتى تختفي الفائدة منه، فقوله تعالى: (... ليس كمثله شيء ...) (8) محكم يسقط من الحساب جميع التجسيدات التي (تشبه الأشياء) في مفهوم (الاستواء) على العرش في قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (9) ولكنه لا يعطينا الصورة الواقعية والمصداق المجسد لهذا (الاستواء)، فهو معنى لا يمكن أن نفهمه من ذلك المحكم: (ليس كمثله شيء).
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع بهذا الصدد الفخر الرازي، التفسير الكبير 7: 184 - 185، والسيوطي، الإتقان 2 : 12 - 13، والزرقاني، مناهل العرفان 2 : 178 - 181.
(2) رشيد رضا، تفسير المنار 3: 170.
(3) آل عمران: 7.
(4) رشيد رضا، تفسير المنار 3: 170.
(5) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 58.
(6) رشيد رضا، تفسير المنار 3: 170 - 171.
(7) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3 : 58.
(8) الشورى: 11.
(9) طه: 5.
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد باقر الصدر
السيد عادل العلوي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العلاقة بين المعجزة والوحي
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (5)
الزهراء.. الحزن الأبدي
ذاكرة التفاصيل لا يكتمل بلوغها إلا في سن المراهقة عند الأطفال
الصّحيفة الفاطميّة
السّعيد محاضرًا حول آليّات التّعامل الإيجابيّ مع الإنترنت والوسائل الرّقميّة
منتظرون بدعائنا
الشيخ صالح آل إبراهيم: ما المطلوب لكي يكون الزواج سعيدًا؟
آيات الأنفس الأولى
فرضية القائلين بالتكامل، وعدم وجود الحلقة المفقودة