قرآنيات

فروق لغوية في الكتاب المجيد (١)

 

مقدمة ..

هذا كتاب الله سبحانه وتعالى ينادي ويتحدّى في كل يوم، منذ نزوله إلى يومنا هذا، من يأتي بمثله، من يأتي بعشر سور من مثله، من يأتي بسورة من مثله، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}([1]).

ولكن أعلن القرآن الكريم مسبقًا أنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثله ولو اجتمعوا كلهم، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}([2])، وقد حاول جمعٌ من بلغاء وفصحاء العرب أن يأتوا بسورة من مثله فلم يستطيعوا، وقد اعترفوا بعجزهم، فهذا الوليد بن المغيرة يقول: "فواللهِ ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، ولا برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، واللهِ ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، واللهِ إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لَمُثمِرٌ أعلاه، مغدق([3]) أسفله، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته"([4]).

وروي أن أعرابيًا سمع رجلاً يقرأ: {فَاصدَع بِمَا تُؤمَرُ وَأَعرِض عَنِ المُشرِكِينَ}([5]) فسجد وقال: سجدتُ لفصاحته([6]).

ويتصل بهذا: "ما روي من أن أعرابيًا سمع آخر يقرأ: {فَلَمَّا استَيأَسُوا مِنهُ خَلَصُوا نَجِيًّا}([7]) فقال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام"([8]).

 

وحكى الأصمعي قال: سمعت جارية إعرابية تنشد وتقول:

استغفر الله لذنبي كله

مثل غزالٍ ناعم في دَلّه

قتلت إنسانًا لغير حِله

فانتصف الليل ولم أُصلّه

فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك! فقالت: أيعدّ ذلك فصاحة مع قول الله عز وجل: {وَأَوحَينَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَن أَرضِعِيهِ فَإِذَا خِفتِ عَلَيهِ فَأَلقِيهِ فِي اليَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرسَلِينَ}([9])، فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين([10]).

"وروي أن ابن المقفع طلب معارضة القرآن ورامه وشرع فيه، فمرّ بصبي يقرأ: {وَقِيلَ يَا أَرضُ ابلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمرُ وَاستَوَت عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعدًا لِلقَومِ الظَّالِمِينَ}([11]). فرجع فمحا ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يُعارض وما هو من كلام البشر، وكان ابن المقفع من أفصح أهل وقته"([12]).

هذا وقد أمرنا الله سبحانه، بالتدبر في كتابه العزيز فقال تعالى {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}([13])، أمرنا بالتدبر في آياته، في معانيها ودلالاتها، في إعجازها وبلاغتها وفصاحتها التي تحدّى بها فصحاء العرب.

وإعجاز القرآن الكريم لم ينحصر في جهة واحدة، وموضوع كلامنا يدور حول الإعجاز البياني في القرآن.

 

الإعجاز اللفظي في كتاب الله

فيما نحن نتلو آيات الكتاب المجيد، ونتدبر فيه، تستوقفنا آيات نظنّها للوهلة الأولى تتشابه معانيها، وذلك لتشابه كلماتها أو لترادفها على بعض الأقوال.

ولكن بعد البحث عن تفسيرها يتبيّن أن كل آية وكل كلمة في كتاب الله لها معنى مختلف، ونستطيع أن نرجّح الرأي القائل بأنَّ الترادف في كلمات اللغة العربية قليل إلى حدّ الندرة، وقد اخترنا عدة نماذج من هذه الآيات نضعها بين أيديكم.

 

النموذج الأول: الفرق بين الأرض الهامدة والأرض الخاشعة

قال تعالى في سورة الحج الآية 5: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.

وقال سبحانه في سورة فصلت 39: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

هنا يرد سؤال: لماذا هذا التغيير في التعبير؟ لماذا أتى في سورة الحج بكلمة "هامدة" وأتى في سورة فصلت بكلمة "خاشعة"؟ فهل المعنى واحد، أم يوجد فرق بين المعنيين؟ وعلى فرض ثبوت الفرق بينهما، فما الذي سبّب هذا الاختلاف في التعبير؟

يمكن الجواب: بأن هناك فرقًا بين الأرض الهامدة والأرض الخاشعة.

"هامدة: أصلها "هَمَدَ" والهمدة السكتة. فيقال همدت أصواتهم أي سكنت. وهمدت النار أي ذهبت البتة فلم يَبِن لها أثر. ونبات هامد أي يابس، وهمد شجر الأرض أي بَليَ وذهب، والأرض الهامدة أي الجافّة التي لا نبات فيها"([14]).

وفي كتاب «العين»: "الهمود الموت كما همدت ثمود، ورماد هامد إذا تغيَّر وتلبَّد، وثمرة هامدة إذا اسودَّت وعفنت، وأرض هامدة مقشعرة لا نبات فيها إلا يبيس متفحم، والهامد من الشجر اليابس"([15]).

"خاشعة: التذلل والانكسار، وأرض خاشعة أي متهشمة ومتغبرة ذابلة من العطش، فإذا يبست الأرض ولم تمطر قيل: قد خشعت"([16]).

 

ومن هنا يُعلم أن هناك فرقًا دقيقًا بين الأرض الهامدة والأرض الخاشعة، فالأرض الهامدة هي اليابسة القاحلة التي لا حياة فيها، بسبب ما أصابها من جدب وقحط وانعدام الماء، وهذا بخلاف الأرض الخاشعة التي يوجد فيها النباتات والزروع، إلا أن العطش وقلة الماء وندرة الأمطار جعلتها مصفرة الأوراق، خاشعة ذليلة ذابلة الأغصان، بأمسِّ الحاجة إلى قطرات الماء، وهذا المشهد هو مشهد الخشوع والانكسار في الأرض.

 فيكون المعنى في سورة الحج: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} ميتة لا حياة فيها {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء} {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}([17]) {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} وحلّت بها الحياة.

أما في سورة "فصلت" فيكون المعنى: {تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} ساكنة يابسة وذابلة من العطش {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}.

فإذًا: تغيّر الكلمات يبيِّن أن هناك فرقًا بين المعنيين، والذي يؤيد هذا الاختلافَ أن السياق الذي أتت فيه كل من الكلمتين مخالف للسياق الآخر.

 

فانظر كلمة "هامدة" وانظر ما قبلها من الكلمات والآيات:

{يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ* يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}([18]).

فهذه الآيات المباركات تتحدث عن يوم القيامة، وتجادل المنافقين والكافرين الذين ينكرون يوم البعث بأنه: كيف يتم إحياء الناس بعد صيرورتهم رمادًا؟ فخاطبهم الله بأن الذي خلق الإنسان من تراب ثم من نطفة (إلى آخر الآية) قادر على إحيائه في يوم القيامة، فناسب أن يأتي بكلمة "هامدة" لدلالتها على الموت والسكون.

 

وهذا بخلاف الآيات في سورة فصلت:

{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}([19]).

فإن الآيات تتحدث عن العبادة والخشوع والتذلل لله سبحانه وتعالى، فناسب ذكر كلمة خاشعة لدلالتها على ذلك.

 

هوامش:

([1]) سورة البقرة آية 23.

([2]) سورة الإسراء آية 28.

([3]) وفي بعض الكتب وردت بلفظ (معذق).

([4]) الدر المنثور لجلال الدين السيوطي، ج6، ص283، (دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت - لبنان)، وهذه بقية كامل الرواية: أخرجه الحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عباس، أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي (ص)، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوه لك، فإنك أتيت محمدًا لتعرض لما قِبَلَه قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر أو أنك كاره له، قال: وماذا أقول! فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت: {ذرني ومن خلقت وحيدا}.

([5]) سورة الحجر آية 94.

([6]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، ج1، ص262، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط 1988.

 ([7]) سورة يوسف آية 80.

([8]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ج1 ص262.

([9]) سورة القصص آية 7.

([10]) الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) ج13، ص252، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، 1985.

([11]) سورة هود آية 44.

([12]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ج1، ص 275.

([13]) سورة النساء آية 82.

([14]) انظر لسان العرب مادة (همد).

([15]) انظر العين، للفراهيدي، باب الهاء والدال والميم (همد).

([16]) انظر لسان العرب مادة (خشع).

([17]) سورة الأنبياء 30.

([18]) سورة الحج آية 1-6.

([19]) سورة فصلت آية 37-39.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد