علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

فينومينولوجيا الغيب، بَداؤها عينُ خفائِها (2)

الظهور الأسمائيُّ.. أو فينومينولوجيا الحدوث الإسميّ

 

لا نجد في محراب الأسماء الإلهيَّة إلَّا ما له دلالة على الفعل والإنشاء. من أجل ذلك، ما عاد جائزًا في معرض التأصيل لفينومينولوجيا الغيب أن يوصف الفاعلُ المنشئُ إلَّا بما يليق بحضرته المقدَّسة من وصف. ولقد كان علينا أن نسمّيه بما سمَّى ذاته من أسمائه الحسنى. وحين يجري الكلام على أوَّل ظهور للغيب بوصفه البَدء الأول لعالم الإمكان، فإنَّ الاسم المطابقَ الذي نذهب إليه هو اسمُ الله المُبدِئُ حيث ابتدأ المبدأ الأوَّل وأبداه، ما يشير إلى أنَّ المبدأ هو المخلوق الأول للمُبدِئ، بمعنى أنَّه المظهر البَدئيُّ الذي به كان ابتداء ظهور العالم.

 

يُعرَّف الاسم في المعارف الإلهيَّة، والمعرفة العرفانيَّة على وجه الخصوص، بأنَّه مظهرٌ مستورٌ بتعيُّناته. أو هو التجلِّي الأوَّل كمظهرٍ للاسم. وقد قيل فيه الكثير: إنَّه عبارة عن الوجود المنبسط والظهور القيّوميِّ للحضرة الإلهيَّة، وإنَّه ظلُّ الفيض الأقدس الأحديّ، أو تجلِّي الاسم الأعظم على وجه الغيبيَّةِ الأحديَّة. أمَّا القول عن الإسم الأعظم بأنَّه عبارة عن الذات مع أحد تجلِّياتها، -أي الذات من حيث عينها- فذلك ما يخالف حقيقة التوحيد، ذلك لأنَّ الذات من حيث كونها ذاتًا، لا تتعيَّن بأيِّ تعيُّنٍ على الإطلاق. وهذا عائدٌ إلى أنَّ التعيُّنات لا تخلو من شائبة التركيب والنقص، والله تعالى عينُ الكمال الأتمِّ، ومنزَّهٌ عن كلِّ أشكال التركيب.

 

نضيف: أنَّ تعيُّن الأمور- في الحكمة المتعالية- يختلف عن تشخُّصها؛ لأنُّ التعيُّن أمرٌ نسبيٌّ والتشخُّص ليس كذلك؛ بل هو نحو وجودِ الشيء وهُوّيّته. (مُلَّا صدرا، 1981م ، 113:1، 24؛ 11). أمَّا من وجهة نظر داوود القيصريِّ شارحِ «فصوص الحكم» لابن عربي، فالتعيُّن عبارة عن الشيء الذي يكون به امتياز كلِّ شيء عن غيره، وهو الأمر الذي يكون ما به التعيُّن؛ فقد يكون عين الذات، من قبيل تعيُّن واجب الوجود الممتاز بالذات، أو كتعيُّن الأعيان الثابتة في علم الحقِّ، حيث يكون تعيُّنها عين ذاتها؛ لأنَّ الوجود عندما تنضمُّ إليه صفة مميَّزة تجعله عينًا ثابتة في الحضرة العلميَّة.

 

وإذن، كلُّ ما في عالم الإمكان إنَّما هو صورةُ اسم من أسماء الله، ومظهرُ شأنٍ من شؤونه. فأسماء الله معانٍ معقولة في غيب الوجود الحقّ، بمعنى أنَّ الذات الأحديَّةَ التي لا سبيل للعقل إلى إدراكها، ولو وجدت في العقل أو أمكن له أن يلحظها، لكان ينتزع منها هذه المعاني، ويصفها بها. والذات الأحديَّةُ مع أحديَّتها وبساطتها هي مصداقٌ لحمل هذه المعاني عليها من غير وجود صفة زائدة. [المعجم في لغة القرآن-  ص 719- محمد واعظ زاده].

 

ولإيضاح هذه الدقيقة يلفتُ العرفاء إلى أنَّ المعيَّةَ بين ذات الله وأسمائه الحسنى ليست كالمعيَّة بين العرضيِّ والذاتيِّ، أو بين العرض والجوهر، ولا كذلك كمعيَّة الذاتيَّات في الماهيَّات الإمكانيَّة، ذلك لأنَّ الحقَّ ليس ذا ماهيَّة كلّيَّة، بل إنَّ حقيقته ليست إلَّا وجودًا مقدَّسًا بسيطًا صرفًا لا إسم له ولا رسم، ولا إشارة إليه إلَّا بصريح العرفان، ولا حدَّ له ولا برهان عليه إلَّا بنور العيان وهو البرهان على كلِّ شيء، والشاهد في كلِّ عين. فجميع الأعيان المعقولة والطبائع الكلّيَّة ليست عند التحقيق سوى علاماتٍ دالَّةٍ على الوجودات الإمكانيَّة والتي هي مظاهر أسمائه وصفاته.

 

لكن، كيف لمظاهر الغيب أن تُحصَّل المعرفةُ بها وفقًا لنظريَّة الحدوث الإسميّ؟

 

الحدوثُ الأسميُّ – حسب واضعي نظريَّتهِ – يعني ظهور الغيب لنفسه وللوجود في آن. وهذه واحدةٌ من أدقِّ نظريَّات الحكمة النظريَّة الباحثة في حدوث العالم وقِدَمه. فالماهيَّات وأعيان الموجودات تصبح موجودةً كظهورٍ عينيٍّ في طور الأسماء والصفات. وإذ تتجلَّى الذات الأحديَّةُ المقدَّسةُ في أسمائها سيكون لكلِّ اسم منها مظهرٌ في التعيُّن الواقعيِّ، ويكون مبدأ ومرجع ذاك المظهر هو عينَ الاسم المناسب له.

 

تبيين الأمر: أنَّ كلَّ موجودٍ من موجودات عالم الكثرة راجعٌ إلى غيب ذاك الاسم؛ الذي هو مصدرُه، وأنَّ مبدأ اختلاف المظاهر يكون باختلاف الظَّاهر وحضرات الأسماء. وعلى هذا النحو، يُعْرَف اللهُ تعالى بمظاهر الأعيان والأسماء والصفات والخلق. وهو يعرف المخلوقات في المواطن والمقامات كافَّة، وأمَّا الإنسان فيعرف الله من خلال الأسماء والصفات، إلَّا أنَّه يستحيل عليه الاطّلاع على حضرة الحقِّ في مقام الهُوّيَّة والأحديَّة.

 

تقول نظريَّة «الحدوث الإسميِّ» أنَّ ماهيَّات وأعيان الموجودات تظهر في مرحلة الأسماء والصِّفات، مع أنَّها لم تكن ظاهرة قبل ذلك. أمَّا ظهورُها بعد أن لم تكن ظاهرةً إنَّما هو ضربٌ من ضروب الحدوث. والمقصود، أنَّ الموجودات لم تكن موجودة في تعيُّن الأحديَّة، – وهي التعيُّن الأوَّل للذَّات والمرتبة المتقدِّمة على الواحديَّة – ثمَّ ظهرت إلى الوجود بعد التعيُّن الثاني في مقام الواحديَّة. ويلفت القائلون بنظريَّة الحدوث الإسميِّ إلى أنَّ الأشياء والماهيَّات ليس لها ظهور في مرتبة الذات، وإنَّما تظهر في التجلّي الأسمائيِّ، وهو ما يُعبِّر عنه العرفاء بـ«الظهور بعد البطون»، ويُطلقون عليه الحدوث. وهو عينه الذي أطلق عليه الفيلسوف العارف هادي السبزواريُّ صفة «الحدوث الاسميّ».[راجع: الوحي الاعتنائيُّ والحدوث الإسميُّ- العدد السادس من مجلَّة «علم المبدأ»).

 

أمَّا الاستفهام الذي يُسَاق حول حدوث العالم بتجلّيات الأسماء فهو هذا: كيف للغيب بما هو غيبٌ أن يظهر ويتراءى على مراتبَ وظهوراتٍ مختلفة؟

 

يحيلُ الاستفهام المذكور إلى ضرورةِ تبصُّر معنى التجلّي كأحد أدقِّ الأفاهيمِ الميتافيزيقيَّةِ في التنظير الفينومينولوجيِّ المتعالي. فالتجلِّي بالإسم كتظهيرٍ إلهيٍّ لعالم الموجودات، هو ما بفضلهِ يفسِّرالعرفاء – ومنهم خصوصًا ابن عربي ومُلَّا صدرا – تعدُّد المراتب الوجوديَّة في عين كونها واحدة. وهذه المنزلة من المعرفة الوجوديَّة تختزن رؤية تفارق ما دأبت إجراءات الفلاسفة والمتكلِّمين أمدًا طويلًا حيال فهم الصِّلة الدقيقة بين الله والعالم. تستوي هذه المنزلةُ على مبدأ النظر إلى التجلِّي كمبدأ إلهيٍّ في إيجاد الموجودات. ومن وجهة نظر ميتافيزيقا التجلّي أنَّها تجعل تجلِّي الإسم مُحايثًا للشيء مع تعاليه عليه. وذلك على قاعدة الانفصال لوجوب التنزيه، والاتصال لوجوب الاعتناء والتدبير. فهو متعالٍ من جهة ذاته، مُحايثٌ من جهة أسمائه.

 

فالتجلّي هو حركة الوجود الأزليَّة الأبديَّة التي عنها يظهر الوجود في كلِّ آنٍ في ثوبٍ جديد. وهكذا تتعاقب عليه الصور التي لا تتناهى عددًا من غير أن تزيد فيه، أو تنقص شيئًا من جوهر ذاته، وذلك على مبدأ أنَّ للحقِّ في كلِّ خلق ظهورًا… ولقد تعدَّدت الآراء حول كيفيَّة صدور الكثرة عن الصادر الأوَّل. لكنَّ الرأي الشائع في الحكمة الإسلاميّة ما ذهب إليه الفارابي وابن سينا من أنَّ العالم صدر من الصادر الأوَّل على نحو الترتيب والترتُّب. وظهرت قاعدة «الواحد لا يصدر عنه إلَّا واحد» كإحدى أبرز القضايا الإشكاليَّة في تاريخ الميتافيزيقا والعلوم الإلهيَّة.

 

بناءً على ما ذُكِر، شاع التساؤلُ عن ماهيَّة وطبيعة وصفة ذلك الواحد الصادر أوَّلًا بإرادة المُبدىء الأعلى في منظومة الحكمة المتعالية أنَّ الصادر الأوَّل هو أول ممكن نشأ منه عالم الإمكان، إلَّا أنَّه لا يحتاج إلى غيره من الممكنات، بل وَجَبَ أن يكون هو وساطة في وجودها، وينحصر احتياجه إلى الواجب نفسه وحسب، ثمَّ ترى إليه على أنَّه الممكن الأشرف، وهو أوَّل ما ينشأ من الوجود الحقّ. ويجمع صدر الدين الشيرازي بين القولين، أي الممكن الأشرف والعقل الأوّل، باعتبار هذا الأخير صادرًا أوَّلَ بالقياس إلى الموجودات المتعيّنة المتباينة المتخالفة الآثار.[ملّا صدرا، الأسفار، ج2، ص 270].

 

مهما يكُن من أمر، فلو أخذنا بقاعدة «الواحد لا يصدر عنه إلَّا الواحد»، أمكن لنا أن نبتني الفرضيَّة التالية: الخلق الأوَّل باعتباره معادلًا للواحد الذي صدر عن الواحد تعالى، ولكن على نشأة البساطة والتركيب، فكان واحدًا ولاشيء قبله وكثيرًا وكلّ الأشياء فيه ومعه فلا تفارقه أبدًا.

 

«الحقُّ المخلوقُ به»: ظهورٌ وإظهار

 

يدلُّ الظهور الأول على الذي ظَهَرَ بالكلمة الإلهيَّة (كن). وهذا الظهور هو نفسه المبدأ الذي أبدأَه المبدئُ ومنحه الحقَّانيَّةَ واستودعه سُنَنَه وقوانينه ومقاديره. وكلمة «كُن» التي كان بها «الحقُّ المخلوق به كلُّ شيء»، واستحقَّ بها حقانيَّته، هي حقٌّ لظهورها بالأمر الحقِّ الذي أوجبها فأخرجها إلى الوجود بأمرهِ ووحيِه. والأمر الإلهيُّ إيحاءٌ غيبيٌّ ظهر به المخلوق الأوَّل طائعًا مستجيبًا للكلمة الآمرة. ولأنَّ خاصِّية المخلوق الأول تكمن في إنفاذ الأمر الإلهيِّ بلا مُساءلة أو جدل، فقد سَرَت عليه الحقّانيَّةُ وكان له من «التخليق» نصيبٌ بمقدار ما أعطي من تقديرِ الخالق.

 

وما دام الخلق الأوَّل متَّصلًا بالقول الآمرِ فإنَّ جميع ما يصدر منه حقَّانيٌّ وحقيقيٌّ، إلَّا أنَّه في الآن عينهِ، مجرَّدُ وساطةٍ لقانونِ الخلق. ووفقًا لما قدِّر له، قامت طبيعتهُ التكوينيَّةُ على بُعدٍ مركَّب: فالخالق المخلوق يُنَمْذِجُ وحدةَ الأضداد من أجل ديمومةِ الخلق وتجدُّده. هذا القانون متأصِّلٌ في الوجود منذ الأزل؛ لكن التعرُّف إلى ماهيَّته لا يُحصَّلُ إلَّا بشهود العقل وشهود القلب معًا. وفي تحقُّقِهما يتحقَّقُ وعيٌ فائقٌ ومعرفةٌ فائقةٌ يدعوها ابن عربي بـ «الخيال الخالق». وهذا الأخير خيالٌ شهوديٌّ، والتعرُّف إليه تعرُّفٌ حضوريٌّ لا تشوبُه شائبةٌ ولا يمنعه حجاب. وما ذلك إلَّا لأنَّ كلَّ خيال خلَّاقٍ هو تجلٍّ وتجدُّد للخلق. ولذا، فالخلق في ميتافيزيقا الوعي الفائق، ليس إيجادًا لشيء لا وجود له، أو إبداعًا على غير مثال سابق، فذلك مستحيلٌ عقلًا وفعلًا، ولا هو فعل قام به الحقُّ في زمن مضى دفعة واحدة، ثمَّ فرغ منه، وإنما الخلق ذاتٌ أزليَّةٌ أبديَّةٌ تظهر في كلِّ آن في صور ما لا يُحصى من الموجودات كثرة. فإذا ما اختفت فيه صورةٌ تجلّى في غيرها في الَّلحظة التي تليها. ما يعني أنَّ فعليَّة الخلق هي حركة التجلّي المتجدِّد، والمخلوقات هي تلك الصور المتغيّرةُ الفانيةُ التي لا قوام لها في ذاتها، وإنَّما قوامُها بالحقِّ الذي يوجدها بمقتضى علمه، ويحفظ وجودها على النحو الذي يشاء، بمقتضى قدرته وإرادته.

 

فـ: «إذا قلت القديم ففي المحدث، وإذا قلت الله ففي العالم، واذا أخليت العالم من حفظ الله، لم يكن للعالم وجود، وإذا سرى حفظ الله في العالم بقي العالم موجودًا، فبظهورهِ وتجلّيهِ يكون العالم باقيًا… وهكذا يكون الخلق عند ابن عربي هو عينَ التجلّي؛ يعني بذلك، إخراجَ ما له وجودٌ في حضرةٍ من حضرات الوجود إلى حضرةٍ أخرى، أي إخراجَه من الوجود في العلم الإلهيِّ إلى الوجودِ في العالم الخارجيِّ، أو هو إظهار الشيء في صورةٍ غير الصورة التي كان عليها من قبل. بيانُ الأمر أنَّ العالم من حيث بطونه في العلم الإلهيِّ، هو حقيقةٌ أزليَّةٌ دائمةٌ لا تفنى، ولا تتبدَّل، ولا تتغيَّر إلَّا من حيث صورها، أمَّا حقيقةُ ذاتها وجوهرها فلا تخضع للكون والفساد، وإنَّما تخضع لهما صورها المتكثِّرة، ومظاهرها المتعدِّدة. ذلك هو مفهوم الخلق في تنظير ابن عربي: تجلٍّ إلهيٌّ دائمٌ في ما لا يحصى عددُه من صور الموجودات، وتغيُّرٌ دائمٌ في ما لا يُحصى من صور الموجودات، وتحوُّلٌ مستمرٌّ في الصور في كلِّ آن، وهو ما يطلق عليه اسم (الخلق الجديد). فالله هو الوجود المطلق، وكلُّ موجودٍ من الموجودات صورةٌ من صورِهِ، والصورةُ إن أُخِذت في جزئيَّتها ليست هـي الله فـي إطلاقـه، إنَّمـا هـي مجلـى مـن مجاليــه. .[أبو العلا عفيفي- التعليقات على فصوص الحكم – الجزء الثاني- مصدر سبق ذكره – ص 213.]

 

يلامس العارف ذو الوعي الفائق – ومن خلال معراجهِ المعرفيِّ واختباراته المعنويَّة – سرَّ الوجودِ في ذاته. وبهذه الملامسةِ التي يقترن فيها الذوقُ اللطيفُ بالعقل الشاهد، يذوي الجدل الذي شهده تاريخ الفلسفة ودار حول معضلة فهم التعارض بين خلق العالم من العدم أو خلقه من شيء كان قبله. فهذا تعارضٌ تنحجبُ بسببه معرفةُ الخاصّيَّةِ المعرفيَّةِ الفريدةِ التي ابتكرها ابن عربي حيال التعرُّف على ماهيَّةِ الموجود الأوَّل وأطلق عليه مسمَّى «الحقُّ المخلوق به». ولأنَّه بهذه الصفة، فهو مخلوقٌ متفرِّدٌ بذاته، فاعلٌ بالخلق من جهة الواقع، منفعلٌ بالحقِّ الأعلى من جهة الغيب. وهو لذلك حظي بمنزلة الخلق الأوَّل المتجلِّي بالكلمة الإلهيَّة البدئيَّة «كُن».

 

فهذه الكلمة يمثِّلها ابن عربي بـ «النفس الإلهيّ»، وهي تعني الانبلاج كما ينبلج الفجر. بهذا يغدو الخلقُ أساسَ كشف الذات الإلهيَّة لنفسها، ولذا، فلا مجال هنا للخلق من عدم لئلَّا تنشأ هوَّةٌ لا يمكن لأيِّ فكرٍ عقلانيٍّ أن يمدَّ فوقها جسرًا، لأنَّ تلك الهوَّةَ نفسَها وبطابعها التمييزيِّ قائمةٌ على المعارضة والإبعاد بين الأشياء. فالتنفُّسُ الإلهيُّ يُخرِجُ – ما يمسيه ابن عربي- نَفَسًا رحمانيًّا، وهذا النَفَسُ هو الذي يمنح الوجود والحياة لكلِّ الأجسام «الَّلطيفة» التي تشكِّل الوجود الأوليَّ والتي تحمل اسم العماء.. إلى هذا الأمر يشيرُ الفيلسوفُ الفرنسيُّ هنري كوربان بذكره الحديث المنسوبَ إلى النبيِّ (ص) لمَّا سُئل أين كان ربُّنا قبل أن يخلق خلقه؟ فأجاب: كان في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء.

 

يرى كوربان أنَّ هذا العماء الذي يصدر عنه والذي فيه يوجد أزلًا الكيانُ الإلهيُّ، هو نفسه الذي يقوم في الآن ذاته بتلقّي الأشكال كلِّها، ويمنح للمخلوقات أشكالَها: إنَّه نشطٌ وسكونيٌّ، متلقٍّ ومحقِّقٌ، وبه يتمُّ التمييز داخل حقيقة الوجود باعتبارها الحقَّ في ذاته. إنَّه من حيث هو كذلك الخيال المطلق واللَّامشروط. وعمليَّة التجلّي الإلهيِّ الأصليَّةُ التي من خلالها «يظهر» الوجود لنفسه بالتميُّز في وجوده الخفيِّ، أي بإظهاره لذاته ممكنات أسمائه وصفاته والأعيان الثابتة، هذه العمليَّةُ تعتبر خيالًا فاعلًا وخلَّاقًا وتجلّيًا. العماء بهذه الدلالة هو الخيال المطلق أو التجلّي الإلهيُّ أو الرَّحمة الموجِدة، تلكمُ هي بعض المفاهيم المترادفة التي تُعبِّر عن الواقع الأصل نفسه، أي الحقَّ المخلوقَ به كلُّ شيء، وهو ما يعني أيضًا «الخالق المخلوق». فالعماء هو الخالق، بما أنَّه النفيس الذي يصدر عنه لأنَّه مخبوءٌ فيه: وهو من حيث هو كذلك اللَّامرئيُّ و«الباطن». والعماء هو المخلوق باعتباره ظرفًا ظاهرًا. فالخالق المخلوق يعني أنَّ الوجود الإلهيَّ هو المحجوب والمكشوف، أو أنَّه هو الأوَّل والآخر.[هنري كوربان- الخيال الخالق عند إبن عربي].

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد