حيدر حب الله
تمهيد
لطالما كان هذا الموضوع ذي الطبيعة التخصّصيّة الشائكة، واحداً من الملفّات التي أقلقت الكثير من العلماء والفلاسفة والباحثين عبر التاريخ، ولطالما أيضاً انقسم الفكر الديني انقساماً مهولاً إزاء العلاقة بين العقل والوحي، والتي بتنا نسمّيها اليوم بالعلاقة بين العلم والدين، أو فلنقل: باتت تتبلور ضمن ثنائيّة العلم والدين بما للعلم من مفهوم معاصر محدّد.
سأحاول في هذه الفرصة الوجيزة أن أسلّط الضوء على بعض النقاط المتصلة بهذه الفكرة؛ علَّها تكون مفتاحاً أو نافذة لمزيدٍ من التأمّل لدينا جميعاً، ولتحفيزنا للاشتغال على هذا النوع من القضايا المعاصرة التي لم يتوقّف تدفّق أسئلتها وتحدّياتها منذ قرونٍ بعيدة.
مستويان في مقاربة موضوع البحث
ثمّة أنواع من مقاربة هذا الموضوع، من بينها:
أ ـ المقاربة على مستوى فلسفة الدين: وهي مقاربة تشتغل على هذه القضيّة من زاوية دينيّة عامّة متعالية حتى عن حصر ذاتها بدينٍ سماوي خاصّ، وسؤالها المركزي: ما هي العلاقة بين الدين السماوي عامّة وبين العقل أو العلم؟
ب ـ المقاربة على مستوى فلسفة الفقه: وهي مقاربة محدودة في مساحتها بزاوية من الدين، وهي الزاوية المعنيّة بالتنظيم القانوني، سواء على صعيد دين خاصّ كالإسلام أم على صعيد مختلف الديانات السماويّة التي تستوعب شكلاً من أشكال التنظيم القانوني لحياة أبنائها أو شطراً من حياتهم. والهدف هو أن نرى ما هو الموقف إزاء التعارض بين العقل والوحي أو بين العقل ونوع من الإلهام القدسي في القضايا الفقهيّة والشرعيّة والتنظيميّة.
بدورنا، سوف نكتفي برصد الموضوع من زاوية فلسفة الدين عامّة، تاركين سائر الزوايا لفرصة أخرى.
اتجاهات الفكر الديني في قضيّة العلاقة بين العقل والوحي
هناك اتجاهات متعدّدة في التراث الديني عامّة لتقديم علاقة ذات معالمَ واضحة بين هذين العنصرين الأساسيّين في حياتنا، عنيتُ العقلَ والدين. ويمكن بنظرة إجماليّة عامّة فرض أربعة اتجاهات عمدة هي:
الاتجاه الأوّل: الاتجاه الوحياني بالحدّ الأعلى.
الاتجاه الثاني: الاتجاه الوحياني بالحدّ المتوسّط.
الاتجاه الثالث: الاتجاه الوحياني بالحدّ الأدنى.
الاتجاه الرابع: الاتجاه الوسطي الداخل ـ ديني.
الاتجاه الأوّل: الاتجاه الوحياني بالحدّ الأعلى
ينتصر هذا الاتجاه للوحي انتصاراً كبيراً، ويقلِّص إلى أبعد الحدود من قدرة العقل على أن يبِتَّ في موقفٍ بتَّ فيه الوحي.
وتتلخَّص معالم هذا الاتجاه الفكري في أربع نقاط:
1 ـ الوحي مصدرٌ معرفيٌّ حاكٍ عن الوجود والحياة، وهذا يعني أنّه يمكننا من خلاله أن نتعرّف على مبدأ العالم ونهايته، وفلسفة الحياة والإنسان وجوهره و..؛ لأنّ الوحي يمثل مصدراً معرفيّاً أساسيّاً، فلا يمكن أن نعتبره بعيداً عن الإخبار بحقائق الوجود، سواء كانت حقائق التاريخ أم حقائق الحاضر أم المستقبل.
2 ـ في المقابل، العقل كيان كثير الخطأ؛ لأنّ العقل يستمدّ معلوماته من الحواسّ، وهي كثيرة الخطأ، ولهذا نجده دائماً في حالة انكشاف لعثراته وعوراته، ومن ثمّ لا نستطيع أن نثق بهذا العقل، فكيف بنا نريد أن نجعله مقابل الوحي الآتي من السماء، والنازل من المطلق المتعالي العالمِ بحقائق الأشياء علماً لا شكّ فيه على الإطلاق.
من هنا، نجد أنّ فيلسوفين كبيرين من فلاسفة الدين أعني: أوغسطين (430م) وتوما الأكويني (1274م)، لا يقبلان أبداً في أن يكون للعقل موطئ قدمٍ فيما يتكلّم عنه الوحي، بمستوى يمكّن العقلَ من مناهضة الوحي أو إخضاعه؛ لأنّ العقلَ يعتمد على عكّاز مهتزّ أو أنّه محدود في تطلّعاته ومديات رؤيته لحقائق العالم، فلا نستطيع أن نجعله حكَماً نقدّمُه على الوحي ونتاجاته المتمثلة بالنصوص الدينيّة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هناك فارقاً كبيراً من أوغسطين والأكويني، فالأوّل كان ينزع كلّما طال به العمر نحو تقليص رؤيته التفاؤليّة تجاه العقل عامّة، بينما الثاني كان ينتصر للعقل كثيراً وبنى لاهوته الطبيعي عليه، لكنّ نقطة اقترابه الجزئي من الاتجاه الأوّل الذي نحن بصدده تكمن في اعتقاده بعجز العقل عن إدراك بعض الحقائق، ومن ثم فهناك مساحة متعالية لا ينبغي للعقل أن يخوضها لأنّها فوقه وأكبر منه، وهي المساحة التي جاء الوحي والانكشاف الإلهي لكي يخبرنا عنها دون أن تقدر عقولنا على فهمها مثل: التثليث، ولهذا لا نعتبر الأكويني من أنصار الاتجاه الأوّل بشكل تام أبداً.
3 ـ الاختلافات الطارئة في نتائج العقل، فإذا لاحظنا نتائج العقول على صعيد الأفراد ـ بعيداً عن عنصر الزمان ـ فسنجدهم يختلفون كثيراً فيها. إنّ هذه المليارات من العقول على امتداد البسيطة تختلف فيما بينها في كثيرٍ من القضايا، فكيف يمكن أن نثق بهذا العقل الذي يختلف ويتصارع، إذ نحن لا نحاكي أو نتكلّم عن العقل المعلّق في الفضاء، بل نتحدّث عن العقل الذي يستخدمه الإنسان عمليّاً كلّ يوم في إطار رصدنا لتجاربه وما أنجزه حتى الآن.
من هنا، نلاحظ أنّ الإمام أبا حامد الغزالي (505هـ) (في بعض مراحل فكره) ومعه المولى محمد أمين الأسترآبادي (1036هـ) ـ والأخير من كبار مؤسّسي الإخبارية الحديثة في الوسط الإمامي ـ اعتبرا أنّه لا يمكن أن نقبل بجعل العقل حَكَماً في محاكمة الوحي والنصوص الدينيّة، إذ علينا أن لا نغترّ باليقين الآتي منه؛ لأنّه ليس إلا يقيناً آنيّاً صوريّاً سرعان ما تكشف أعمال التنقيب في التجربة التاريخيّة عن وهمه.
4 ـ ليس العقل هو المعبر للإيمان، بل الإيمان هو معبر العقل، فخلافاً لما هو الشائع من أنّ العقل هو المعبر للإيمان، يرى هذا الاتجاه أنّ الإيمان هو المعبر للعقل، فالإنسان بقلبه وفطرته يحصل على المعرفة الحقيقيّة، وهذا الإيمان هو الذي يُنتج العقلَ الصحيح، أمّا العقل بلا إيمان فلا ينتج معرفةً على الإطلاق، بل وهم المعرفة.
إذا أردنا أن نختصر هذا الاتجاه، يمكن أن نسمّيه باتجاه سوء الظنّ بالعقل وعدم الاعتماد على نتائجه، فكيف يمكن أن نجعله حَكَماً على الوحي والنصوص الدينيّة، ولهذا ينبغي أن نسدّ باب العقل لنجعل الوحي ينطلق لوحده مصدراً أساسيّاً غالباً أو وحيداً في الوصول إلى حقائق هذا العالم.
إنّ هناك أنصاراً كثُر في الساحة الدينيّة لهذا الاتجاه، سواء الإسلامية بجميع مذاهبها أم عامّة الديانات السماويّة على اختلافها، وقد عزّز هذا الفريق موقعه بالنقد الفلسفي على المذاهب التجريبيّة، خاصّة مثل انتقادات ديفيد هيوم (1776م) ـ وهو فيلسوف تجريبي ـ على إمكانية الوصول إلى اليقين، وكذلك شطراً من انتقادات الفلسفة الكانطيّة، وما نتج في القرن العشرين عبر فلسفة العلوم من نزعة شكوكيّة أو غير متفائلة تجاه العقل الصارم الذي عرفه عصر التنوير.
وخلاصة القول لو أردنا تحليل طريقة تفكير هذا الاتجاه: إنّ هذا الاتجاه استهدف العقل ذاته في نقده؛ كي يجعل الوحيَ قوّةً لا منازع لها، ويُعجز أقوى خصومها ـ وهو العقل ـ عن أن ينافسها أو يقترب منها، ومن ثمّ فتمرّد عقولنا على معطيات الوحي يصبح تمرّداً غير مبرهنٍ موضوعيّاً ولا مبرّراً أخلاقيّاً.
الاتجاه الثاني: الاتجاه الوحياني بالحدّ المتوسّط
حاول هذا الاتجاه أن يتراجع قليلاً، فيعتبر العقلَ حجّةً ومصدراً موثوقاً لمعرفة الأشياء أو حتى حقائقها، وذلك من حيث إنّه نعمةٌ من نعم الله تعالى على الإنسان، لكنّ هذه القيمة المعطاة للعقل في هذا الاتجاه يمكنها أن تحافظ على نفسها وصولاً إلى إثبات النبوّة؛ إذ بعد ذلك تُسَلَّم القيادة إلى النبيّ (السّمع) كما كان يقول الشيخ أبو حامد الغزالي في بعض مراحل حياته الفكريّة، أو أنّ العقل حجّة إلى أن تثبُت النبوّةُ والإمامة دون ما بعد ذلك، كما يرى ذلك العلامة محمّد باقر المجلسي (1111هـ)، وفقَ ما جاء في الجزء الثاني من كتابه بحار الأنوار.
وبهذا يكون دور العقل ومجال اعتباره مفتوحاً حتى يصل الإنسانُ للنبيّ أو الإمام، فكأنّ له دوراً مقدَّميّاً ليضع يدَ الإنسان في يد الإمام أو النبيّ، لتستمرّ عبر الوحي مسيرة المعرفة الإنسانيّة. وليس للعقل أن يقول شيئاً أعلى من قول النبيّ أو الإمام أو القرآن (النصّ الديني)، وبهذا تكوّنت صورة أكثر اعتدالاً بالنسبة إلى العقل، حيث تُرك له المجال أن يتحرّك بدرجةٍ من الدرجات، لكنّه ظلّ محكوماً في حركته لنهايةٍ محدّدة، وخاضعاً في نتائجه لها، وهي الوحيُ والنصوص الدينيّة.
فإذا تعارَض العقلُ في معطياته مع الوحي، فإنّ علينا أن نخطِّيء بِنيتنا الفكريّة ونعيد النظر في معطيات العقل؛ لأنّ المفروض أنّنا قد سلّمنا أيدينا إلى الوحي (المتمثل في النبيّ أو الإمام)، ليوصلنا إلى شاطئ الأمان، فإذا اختلف العقلُ مع الوحي فإنّ هذا يعني أنّنا اكتشفنا خطأ العقل، ومن ثمّ يجب أن نعيد النظر في تلك المنظومة الفكريّة التي أوصلتنا إلى هذه النتيجة المناقضة لما جاء به الوحي.
ونقطة اختلاف هذا الاتجاه عن الاتجاه الأوّل أنّه لا يُفقدنا الثقة بأصل العقل، بل قد يقوّي ثقتنا به ويجعل الإيمان مبنيّاً على براهين العقول، لكنّه لا يواصل مسيرة الاعتماد على العقل، معتبراً أنّ ما بعد النبوّة طورٌ لا يملك العقل الموادَّ الخام التي تخوّله إنتاج شيء فيه.
الشيخ محمد الريشهري
الدكتور محمد حسين علي الصغير
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد جواد البلاغي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد عبد الأعلى السبزواري
محمود حيدر
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العقيدة، المعنى والدور
المرتدون في زمن النبي (ص)
طبيعة الفهم الاستشراقي للقرآن (1)
حين تصبح المرأة المثيرة هي القدوة، ما الذي جرى وكيف تُصنع الهوية؟
الحب في اللّه
العرفان الإسلامي
جمعية العطاء تختتم مشروعها (إشارة وتواصل) بعد 9 أسابيع
الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (2)
قول الإماميّة بعدم النّقيصة في القرآن
معنى كون اللَّه سميعًا بصيرًا