مَن يؤمِنُ بعد بأسطورة العلمنة؟
هذا السؤال المفارق والمثير في آنٍ، هو ما يفتتحُ به المفكّر الأمريكيّ من أصل إسباني خوسيه كازانوفا كتابه المعروف "الأديان العامة في العالم الحديث". لكنه لا يبرحُ حتى يستدرِكَ، ليمنحَ السؤال مفعولَه الإيجابي. يشيرُ كازانوفا إلى أن السجالات التي يشهدها علم اجتماع الدين في الآونة الأخيرة تدلُّ على أن السؤال -سالف الذكر- هو الملائم لمباشرةِ أي نقاشٍ يجري حاليًا حول نظرية العلمنة. ولكن، رغم إصرار بعضٍ ممن يسميهم بـ "المؤمنين القدامى" على أن نظرية العلمنة تتمتع حتى الساعة بقيمة تأويلية لدراسة السيرورات التاريخية الحديثة، فإن السواد الأعظم من علماء اجتماع الدين لن يعيروا هذا الرأي آذانًا صاغيةً، لأنهم تخلوا عن هذا النموذج، مثلما تبّنوه من قبل، وكانوا من أمرهم هذا في عجالة.
مع أن الدخولَ إلى فكرة العلمانيّة والسفر في عوالمها، لا يزال ينطوي على حذرٍ لافتٍ بين مفكّري وفلاسفة الغرب، فلا ينفكُ التعاملُ مع هذه الفكرة في البلاد العربية والإسلامية بمنهجٍ نظرٍ يشوبه التبسيط والاختزال، كما يحكمُه الاندهاش والاستغراب.
في هذه المنزلة، يصبح أمرًا ملحًّا مراجعة المعايير التي تحوّلت مع تقادم الزمن إلى يقينيات، لا سيما لدى النخب التي لم تدرك العلمانية إلا بوصفها أفكارًا ونظريات ووعودًا افتراضية. في هذه المنزلة أيضًا يصبح من الضروري فهم حدود التمايز بين العلمانية كمفهوم ورؤية للعالم، والعلمنة كما تتبدى في حقل الاختبار والتجربة التاريخية. فإذا كان المفهوم هو على الدوام معيار البناء المعرفي لدى النخب التاريخية في العالمين العربي والإسلامي، فإن مفهوم العلمنة نفسه لم يتحدد بوضوح إلا وفقًا للاختبارات الميدانية وخصوصيات التجارب. فالعلمنة في الغرب ليست واحدة، ولا هي جرت على النشأة نفسها في البلدان المختلفة التي شهدت ثورات الحداثة ابتداءً من القرن الرابع عشر. ففي كل بلد أوروبي اتبعت الحداثة مسارًا خاصًا له، وكان للعلمنة فيه نسق يناسب هويته وثقافته وجغرافيته المعرفية.
الثورة الفرنسية على سبيل المثال أطلقت سياقًا خاصًا في سيرورة العلمنة. قد يكون هو السياق نفسه الذي حمل نخب البلدان المستعمرة في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى الأخذ بالنسخة الفرنسية للعلمنة كوسيلة لبناء مدائنهم الفاضلة.
أما في أمريكا وبعض أنحاء أوروبا، فإن نزع القداسة عن المجتمع والدولة تمّ على نحو يكاد يخلو من الصدام مع سلطة الكهنوت، ما حدا بالفيلسوف الفرنسي الكسيس دو توكفيل إلى أن يرى في التناغم الحاصل بين الدين والسياسة إحدى العلامات الكبرى في خصوصية الديمقراطية الأمريكية ومرتكزاتها.
في السياق نفسه سنلاحظ كيف أن بريطانيا العظمى ليست اليوم بأقل حداثة أو أقل "دَنيَوَة" مما سبق. مردُّ ذلك، أن الديمقراطية هنا تتكيَّف تكيُّفًا أفضل مع سلطة روحية معترف بها، حيث الملكة ما فتئت تضطلع بوظيفة مزدوجة: تترأس الدولة وتترأس الكنيسة في الآن نفسه.
أهم ما ينكشف في مختبر العلمانية، أنها أكثر المفاهيم التي أنتجها الغرب قابلية للتأويل. فهي لا تنضبط عند تعريف واحد. كل آباء الحداثة والتنوير اتفقوا على تبنيها ونقدها في الآن نفسه: من ماركس ومن قبله، إلى أوغست كونت وهربرت سبنسر إلى دوركهايم وماكس فيبر، ناهيك عن كانط ومن عاصره، إلى نيتشه وفرويد وسواهم. وفي الواقع فقد بلغ هذا الإجماع مبلغًا لم تعد العلمانية فيه تتعرض للتشكيك، بل لم تبرز الحاجة، على ما يبدو، إلى اختبارها، لأن الجميع سلموا بها، ما يعني أن مقولة العلمنة، بالرغم من كونها المقدمة المنطقية غير المعلنة للكثير من نظريات الآباء المؤسسين، فإنها لم تخضع لدراسة رصينة، بل ولم يحدث أن صيغت صياغة صريحة ومنهجية.
وبعد..السؤال في الغرب اليوم يعود ليتجدد حول مآلات العلمنة، بما لها وما عليها. سؤال يبدأ من النقطة التي انتهى إليها وكان مسبوقًا بها. أي من المنطقة المعرفية التي وضعت فيها العلمانية على الطرف النقيض من القيم الدينية و"التروحُن".
ولنا ختامًا أن نتساءل.. عما لو كان في مستهل القرن الحادي والعشرين من أفق لإجراء حساب شامل مع العلمنة، بما يعيد وضع المفهوم على نشأة أخرى حيال الإيمان الديني، أو لرؤية العالم بوصفه قيمة أخلاقية؟
تساؤل دونه الكثير من مشقة الإجابة.. لكنه سؤال جائز بأي حال..
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد جعفر مرتضى
الشهيدة بنت الهدى
الشيخ محمد صنقور
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
حيدر حب الله
الشيخ شفيق جرادي
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
حسين حسن آل جامع
فريد عبد الله النمر
الشيخ علي الجشي
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان