علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

المتفقّه الجدلي والفقه الجدلي (1)

من هو "المتفقّه الجدلي"؟ وما هو "الفقه الجدلي"؟

أعني بـ "المتفقّه الجدلي" ذاك الشخص الذي يفهم من البحث الفقهي ما يقوم على قواعد الجدل والمناظرة، بهدف الدفاع عن فكرة فقهيّة (أو توليفة أفكار) أو مهاجمة فكرة أخرى تُعدّ خصماً قائماً. ولكي نذكر شبيهاً تاريخيّاً نأخذ علم الكلام المتَّهم على غير صعيد ـ بحقٍّ أو بغير حقّ ـ بأنّه تورّط باعتماد مرجعيّة الجدل في اشتغالاته البحثيّة، فالمتكلّم كثيراً ما تهمّه المناظرة وممارسة أشكال الجدل المعتمدة في المنطق الصوري وغيره.

 

إنّ المتفقّه الجدلي ظاهرة لها شكلان:

الشكل الأوّل: المتفقّه الجدلي المقارن (بين المذاهب)، وهو الذي ولَّدَ علم الفقه المقارن القائم على الجدل، دون علم الفقه المقارن القائم على الحوار والبحث والتعاون، فالمتفقّه الجدلي المقارن هو ذلك الذي يبحث في قضيّةٍ فقهيّة (أو توليفة قضايا فقهيّة) ليس لكي يكتشف الحقّ فيها، بل لكي يردّ على قول الذين ينتمون لغير مذهبه العقائدي أو لغير مذهبه الفقهي.

الشكل الثاني: المتفقّه الجدلي غير المقارن، وهو ظاهرة ازداد انتشارها في العقود الأخيرة، ويمكن العثور على نسيجها وروحها في أعمال سابقة فقهيّة. وهو متفقّه يدرس مسألة فقهيّة لا لكي يخرج بنتيجة تقتضيها الأدلّة، بل ليُثبت نتيجةً مسبقة أو ليُبطل نتيجةً يراها خصومه من داخل مذهبه العقدي ومن داخل مذهبه الفقهي، أو من خارج نطاق الفقه كلّه.

نوعٌ من المتفقّه الجدلي غير المقارن يمكن العثور عليه منذ زمن بعيد جداً، وهو ذاك المتفقّه الذي يعرف مسبقاً أنّ النتيجة واحدة، لكنّه يبحث حتى يُثبتها، فلو فرضنا أنّه لم يقدر على إثباتها، فهو يبذل قصارى جهده لإثباتها، وكأنّه لابُدّ لها أن تثبُت بأيّ ثمن، الأمر الذي يحوّله من فقيه استدلالي إلى فقيه يحمل الروح الجدليّة، فيعتمد أحياناً على المؤثرات النفسيّة أو يخترع أدلّةً يتصوّرها ذات قيمة، لا لشيء إلا لشعوره الذاتي بضرورة إبقاء الوضع على ما هو عليه.

إنّ الفقه الجدلي أو المتفقّه الجدلي ليس من الضروري أن يُنتج فقهاً كاملاً جدليّاً، بل يكفي أن يكون له حضوره النسبي داخل البحوث الفقهيّة، فلا أعني هنا فقهاً كاملاً يقوم على العقل الجدلي، بل ظاهرة داخل الفقه تزداد وتتقلّص وتؤثر على مجموعة من البحوث الفقهيّة، تبعاً لعوامل ومتغيّرات.

هذا، وكلّ ما سأقوله حول الفقه الجدلي والمتفقّه الجدلي، له ما يشبهه في علم أصول الفقه الجدلي، وفي علم الحديث الجدلي، وفي علم الرجال الجدلي، وغير ذلك من العلوم النقليّة بل والعقليّة، بل قد تجد في علم الحديث والرجال نسبةً أعلى من الجدليّة من علمَي: الفقه والأصول.

 

الأثافي الستّ للفقه الجدلي أو المتفقّه الجدلي

الأثافي التي يقوم عليها الفقه الجدلي أو المتفقّه الجدلي، عديدةٌ، يمكن التركيز على بعضها، وهي ست:

1 ـ عدم التفكير الصفري، بمعنى أنّ الباحث لا يبدأ من الصفر لإثبات فكرةٍ فقهيّة أو نفيها، بل يدخل البحث العلمي مفترضاً مسبقاً ثبوت هذه الفكرة أو بطلانها، وتكون بداية مشواره عمليّة التثبيت والتبرير والدفاع أو عمليّة الهجوم والإبطال.

2 ـ اعتماد منطق التفتيش والستر، إذ يقوم الفقه الجدلي على السعي للعثور على نقاط ضعف في الطرف الآخر، والتفتيش عن ثغرات ولو كانت شكليّةً، بهدف إحراجه أو إرباكه أو جعله في موقفٍ ضعيف. وفي المقابل يسعى المتفقّه الجدلي لكي يستر كلّ العيوب الموجودة في أفكاره أو عند رموز مدرسته، ويعمل بكلّ جهده للحيلولة دون انكشافها، وإذا حصل أن انكشفت أو كشفها خصمُه فإنّه يعمل على تبريرها عبر آليّات من نوع فتح باب الاحتمالات التفسيريّة الغريبة وغير المتوقّعة؛ بهدف أن يقول للطرف الآخر: إنّ هذه الفكرة أو هذه الفتوى تحتمل أن يراد منها كذا وكذا مما لا يحتمله أحدٌ في العادة. إلى غير ذلك من الطرق والأساليب، والتي يشتهر من بينها أسلوب قمع الآخر أو التنمّر عليه بحجّة أنّه غير متخصّص.

3 ـ اعتماد منطق المحاماة أو الادّعاء، وليس منطق القضاء، وبتعبير آخر: تقمّص شخصيّة المحامي أو المدّعي العام (أو وكيله ونائبه)، وليس شخصيّة القاضي، فهو يريد أن ينتصر لفكرته أو لفكرة مدرسته وجماعته، فيلبِس ثوبَ المحاماة، ويبدأ يفتّش عن ألف منفذ ومنفذ؛ لكي يخرّج متهمه من وراء القضبان ويمنحه صكّ براءة. وإذا كان الذي هو خلف القضبان خصمُه وأعداؤه فهو يعمل بكلّ ما أوتي من قوّة لمراكمة أيّ شيء يمكنه أن يجعل القاضي يحكم بأقسى أشكال العقوبة. ولو أخذ المحامي القضيّة عينها لكن الذي خلف القضبان كان خصمُه، لانقلب إلى مدّعٍ تلقائيّاً، حتى لو كانت المعطيات واحدة!

تظهر بعض أمثلة ما نقول عندما يتصدّى فقيه أو مرجع أو مجمع فقهي ما لفتوى معيّنة، تثير بلبلةً ونقاشاً، ويظهر لها خصوم يسعون لتصفية حساباتهم مع هذا الفقيه أو المرجع عبر استغلال هذه الفتوى مثلاً، هنا نجد أنّ المحامي (المتفقّه الجدلي) يعقد الندوات والمحاضرات ويكتب الرسائل والمقالات، لتبيين وجهة نظر مرجعه أو مجمعه الفقهي بأحلى صورة، والدفاع عنها، ولو فرضنا أنّ الفتوى بعينها قالها بعض خصومه فإنّ الندوات عينها سوف تنعقد على العكس تماماً!

وأذكر يوماً أنّنا كنّا في محضر جماعةٍ من فضلاء الحوزة العلميّة، وكان حديثٌ عن فتوى أطلقها أحد المراجع في حينه، فكان الفضاء الحاكم على هذا المجلس أنّهم يريدون أن يقوم الباحثون بكتابة بحوث فقهيّة لتأييد تلك الفتوى! وهو ما أثار استغرابي، وكأنّ المرجع يُفتي وعلى الآخرين أن يشكّلوا جيشاً من المنظّرين والمدافعين عن فتواه! وأذكر أنّ تلك المسألة كانت من الغرائب عند السائد، بحيث أكاد أجزم ـ والعلم عند الله ـ لو أنّ مرجعاً آخر أفتى بها لهبّ الحاضرون أنفسهم ـ وأعرفهم جميعاً حقَّ المعرفة فرداً فرداً ـ للدعوة لكتابة مقالات في نقد تلك الفتوى! وإلى الله المشتكى.

4 ـ فنّ صناعة الدليل الفقهي، وأعني به أنّ المتفقّه بالفقه الجدلي عندما تنهار الأدلّة التي قدّمها هو أو فريقُه لإثبات فكرتهم نتيجة تطوّرات في البحث الاستدلالي أو نتيجة الجدل والمناظرة المباشرة وغير المباشرة، فهم يبتكرون الأدلّة الجديدة. إنّ ابتكار الأدلّة ليس عيباً، بل قد يكون إبداعاً، لكنّ ابتكار الأدلّة في سياقٍ جدلي كثيراً ـ ولا أقول دائماً ـ ما يعني شيئاً من "فبركة" الأدلّة الوهميّة والسعي لإقناع أنفسنا بها ومحيطنا، لا لشيء إلا لإبقاء أفكارنا وآرائنا قائمةً على حالها لا يحدث فيها تغيّر جذري. ولولا وضعنا النفسي هذا لما أقنعتنا هذه الأدلّة بشيء، ولربما ضحكنا عليها أحياناً.

5 ـ التركيز على الشكليّات دون الجوهر، بمعنى أنّ المتفقّه الجدلي وبسبب غرقه في النمط الجدلي، فهو إمّا عاجز أو لا يهمّه تقديم نقد جوهري وعميق وبنيوي لأفكار الآخرين؛ إذ يشعر أنّ هذه الطريقة طويلة ومضنية، وقليلاً ما يكون لها تأثير شعبي، إذ غالباً ما يقتصر تأثيرها على بعض النخب، لهذا يفضّل المتفقّه الجدلي استخدام أنماط النقد الشكلي مثل هفوة تعبيريّة هنا أو جملة غير دقيقة هناك أو كلمة في غير محلّها أو غير ذلك.

6 ـ الشعبويّة أو التركيز على العواطف والأحاسيس، وهذه من ميزات النهج الجدلي عبر التاريخ، وإذا طبّق ذلك متفقّهٌ جدلي فهو يعمل على أن يصوّر الطرف الآخر على أنّه شرير وطالب شهرة ومشكوك في نزاهته، أو أنّ هذه الأفكار تستبطن ادّعاء أنّ جميع علمائنا وتراثنا ليس سوى سخافات، أو هو يدمّر هويّتنا ويخدم عدوّنا شعر أم لم يشعر، وغير ذلك.

ويشتهر المنتمون الجدليّون عبر التاريخ بتحريض العامّة، عبر إثارة العواطف الشعبيّة، فهذا من أدواتهم المعروفة عبر كلّ العصور وفي مختلف المجالات، والقائمة هنا لا تنتهي ليس الوحيد فيها الإمام الطبري (310هـ).

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد