علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

العلمانية في حدود الأسطورة

من يؤمن بعد بأسطورة العلمنة؟ هذا السؤال المفارق والمثير في آن، هو ما يفتتح به المفكر الأميركي من أصل إسباني، خوسيه كازانوفا، كتابه المعروف "الأديان العامة في العالم الحديث". لكنه لا يلبث أن يستدرك ليمنح السؤال مفعوله الإيجابي. فلقد رأى أن السجالات التي يشهدها علم اجتماع الدين في الآونة الاخيرة، تدل على أن هذا السؤال هو الملائم لمباشرة أي نقاش يجري حالياً حول نظرية العلمنة.

ولكن، رغم إصرار بعض من يسميهم "المؤمنين القدامى"، على أن نظرية العلمنة تتمتع حتى الساعة بقيمة تأويلية لا يستهان بها لدراسة السيرورات التاريخية الحديثة، فإن السواد الأعظم من علماء اجتماع الدين لن يعيروا هذا الرأي آذاناً مصغية، لأنهم تخلوا ـ بحسب كازانوفا ـ عن هذا النموذج، مثلما تبّنوه سابقاً في عجالة غير نقدية.

 

 ومع أن الدخول إلى فكرة العلمنة والسفر في عوالمها، لا يزال ينطوي على حذر لافت بين مفكري الغرب وفلاسفته، فلا ينفك التعامل مع هذه الفكرة في البلاد العربية والإسلامية بطريقة فيها الكثير من التبسيط والاختزال.

ولعل النقطة الجديرة بالمعاينة، هي وجوب معرفة حدود التمايز بين العلمنة كمفهوم نظري، والعلمانية كما هي في حقل الاختبار والتجربة التاريخية.

فإذا كان المفهوم هو على الدوام معيار البناء المعرفي لدى النخب التاريخية في العالمين العربي والإسلامي، فإن مفهوم العلمنة نفسه لم يتحدد بوضوح إلا وفقاً للاختبارات الميدانية وخصوصيات التجارب. فالعلمنة في الغرب ليست واحدة، ولا هي جرت على النشأة نفسها في البلدان المختلفة التي شهدت ثورات الحداثة ابتداءً من القرن الرابع عشر.

 

ففي كل بلد أوروبي أخذ بالحداثة سبيلاً، كان للعلمنة فيه نسق يناسب هويته وثقافته وجغرافيته المعرفية. الثورة الفرنسية، على سبيل المثال، أطلقت سياقاً خاصاً في سيرورة العلمنة، قد يكون هو السياق نفسه الذي حمل نخب البلدان المستعمرة في القرنين التاسع عشر والعشرين، إلى الأخذ بالنسخة الفرنسية للعلمنة كوسيلة لبناء مدائنهم الفاضلة.

في المثال الفرنسي، حيث كانت تقوم بين النظامين السياسي والديني صلة تلاحم وترابط، لم يكن النضال من أجل التحرر السياسي والاجتماعي لينفصل عن النضال ضد الهيمنة الأيديولوجية للاهوت الديني المسيحي. لقد كان تأكيد استقلال الإنسان وحريته، يعني تأكيداً موازياً لاستقلالية العقل. على هذا النحو من الحراك، كانت العلمانية و"الدَنْيَوَة" تشكلان سيرورة واحدة، وسيكون لها أن تفرز تصوراً للحداثة جمهورياً وجذرياً ووضعياً، يقيم حدوداً واضحة بين الروحي والزمني، بين السياسي والديني.

أما في أميركا وبقية أنحاء أوروبا، فإن نزع القداسة عن العالم والمجتمع تمّ على نحو يكاد يخلو من الصدام مع سلطة الكهنوت الفكرية والسياسية، وهكذا أفضى هذا النزع إلى ظهور ضرب من العلمانية من نوع خاص ومركب، ما حدا بالفيلسوف الفرنسي الكسيس دو توكفيل، إلى أن يرى في التناغم الحاصل بين الدين والسياسة إحدى كبريات ركائز الديمقراطية في أميركا.

 

ويمكن أن نلاحظ في السياق نفسه، كيف أن بريطانيا العظمى ليست اليوم أقل حداثة أو أقل "دَنْيَوَة"، بالنظر إلى أن الديمقراطية تتكيَّف فيها تكيُّفاً أفضل مع سلطة روحية معترف بها، أو إلى أن الملكة (الملك) ما فتئت تضطلع بوظيفة مزدوجة، حيث تترأس الدولة وتترأس الكنيسة في الآن عينه.

لعل أهم ما في العلمنة أنها أكثر المفاهيم التي أنتجها الغرب قابلية للتأويل، فهي لا تنضبط عند تعريف واحد. قد تكون نظرية العلمنة هي النظرية الوحيدة التي استطاعت الارتقاء إلى وضعية نموذجية، ضمن العلوم الاجتماعية الحديثة. فلقد أجمع كل آباء الحداثة والتنوير على تبنّيها؛ من ماركس ومن قبله، إلى أوغست كونت وهربرت سبنسر، إلى دوركهايم وماكس فيبر، ناهيك عن كانط ومن عاصره، إلى نيتشه وفرويد وسواهم.

وفي الواقع فقد بلغ هذا الإجماع مبلغاً لم تعد العلمانية فيه تتعرض للتشكيك، بل لم تبرز الحاجة، على ما بدا، إلى اختبارها، لأن الجميع سلّموا بها، ما يعني أن هذه النظرية، أو بالأحرى مقولة العلمنة، رغم كونها المقدمة المنطقية غير المعلنة للكثير من نظريات الآباء المؤسسين، لم تخضع إطلاقاً لدراسة رصينة، بل ولم يحدث أن صيغت صياغة صريحة ومنهجية.

 

ومهما يكن من تعدد مناحي التأويل، فثمة ما يشبه الإجماع على أن مفهوم العلمنة نشأ من الجدل الذي شهدته عهود الحداثة، حين راحت تقوم بإجراءات التمايز والفصل بين النطاق الدنيوي الزمني للدولة والاقتصاد والعلم التجريبي، وبين الإيمان الديني.

ومهما يكن فإن مدار العلمانية سيأخذ صفته التاريخية كمفهوم وكبنية معرفية، في لحظة الاحتدام التي شهدتها أزمنة الحداثة الغربية مع المؤسسة اللاهوتية. وبناء على هذا، هناك إشارة إلى فصل الدين عن السياسة، بشكل يضمن عدم تدخل أحدهما في الآخر إطلاقاً.

لقد تزامنت بدايات عصر النهضة مع إقصاء الكنيسة، وتجاهل الحتميات الإلهية الدينية. وهنا يمكن القول إن العوامل التي بلورت العلمانية، تكمن في الإخفاقات ذاتها، التي عاشتها القرون الوسطى، ونذكر منها:

أ ـ قصور التعاليم والأحكام المسيحية، حيث إن سلطة الكنيسة النسبية ـ في بداية القرون الوسطى ـ تحولت إلى سلطة مطلقة في ما بعد، ممّا دفعها إلى الاستبداد في استعمال القوة. ومع تضافر الرؤى الكونية واتساع باب المعرفة، أعلن مخاطبو الكنيسة أن من شروط حكومة الدين عليهم، تقديمها استدلالاً على كل ما تطرحه من معتقدات وقوانين، وهذا ما رفضته الكنيسة.

 

ولما لم تكن الكنيسة تمتلك القدرة على نشر مفاهيمها الدينية وتلقينها، إضافة إلى قصور المفاهيم نفسها عن تلبية احتياجات المجتمع المتنامية، فقد انعكس ذلك سلبياً عليها، فكانت ردة الفعل، أن تجاهلها الناس، ومن ثم جرى إقصاؤها عن المجتمع والسلطة.

ب ـ الإصلاح الديني: النهضة الإصلاحية الدينية، هي نشاط شكل عاملاً من عوامل إقصاء الدين عن المجتمع تدريجياً، وكان من أوائل المنظرين لهذه الحركة (مارتن لوثر 1483-1546م)، فقد طرح آراء جديدة من أجل إصلاح وتحسين شرعة المسيح، وإقامة الاستقرار فيها. وقد أكد على فكرة أن "كل شخص هو قسيس نفسه"، انطلاقاً من تأييده الفردية والتشجيع عليها، ولهذا السبب ترجم الإنجيل إلى الألمانية.

وكان من جملة نظرياته المطروحة، فصل الدين عن السياسة، وأن مسؤولية الكنيسة تنحصر في الاهتمام بالجوانب المعنوية الروحية فحسب. كان مارتن لوثر من القساوسة المسيحيين، وكسائر زملائه لم يكن يعتقد بلزوم وساطة القساوسة لفهم الأناجيل الأربعة.

 

وعلى هذا فقد خرج لوثر ذات يوم على الناس، ووقف في وسط المدينة حاملاً بيده مجموعة من "صكوك الغفران"، ليمزّقها أمام الملأ. يومئذٍ دعا الناس إلى تحكيم عقولهم لفهم الدين، لكن التمادي المفرط لدى الكنيسة لم يترك مجالاً للإصلاحات داخلها، ولم يبق أمامه سوى القضاء على الأنظمة والمؤسسات التي ترتبط بالدين. وبهذه الطريقة تهيّأت الأجواء لظهور العلمانية الحادة، كردة فعل على استبداد اللاهوت وقسوته.

لكن السؤال في الغرب اليوم يعود ليتجدد حول مآلات العلمنة. وهو سؤال يبدأ من نقطة الانتهاء بالذات، أي من المنطقة المعرفية الكلاسيكية التي وضعت العلمانية على الطرف النقيض للدين. ليظهر من الفلاسفة والمفكرين الغربيين من يستهل الجواب بضرورة التمييز بين مفهوم العلمانية والنظرية السوسيولوجية للعلمنة، حيث يرى جمع من هؤلاء أن هذا التمييز هو أمر جوهري، بسبب تعدّد أبعاد المفهوم وتناقض دلالاته في ساحتي النظر وحقول الاختبار.

هل ثمة، في عالم القرن الحادي والعشرين، من أفق لإجراء حساب شامل مع العلمنة، بما يعيد وضع المفهوم على نصاب المصالحة مع الإيمان الديني؟

سؤال فيه الكثير من المخاطرة.. لكنه سؤال جائز بأي حال...

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد